للسوريين ابتكارات أضافت للتاريخ الحضاري الكثير، وليست الأبجدية أو النوتة الموسيقية أعظمها، فالإنسان السوري أيضاً رائد في علم الهندسة من خلال ابتكاره المربع، اللبنة الأساسية في التقدم الحضاري والتكنولوجي.

مدونة وطن "eSyria" بحثت في هذا السؤال الذي سبقنا البحث فيه مبدع سوري هو الباحث والفنان التشكيلي الراحل "عيسى بعجانو- هيشون"، ففي محاضرة ألقاها في جامعة تشرين العام 2000، بعنوان "ذاكرة الشكل" ذكر أن للمربع مكانة مميزة في الثقافة السورية، وهو محفوظ في ذاكرتنا لدرجة نكرر استخدامه دون أن نقصد، وفي محاولته إثبات أنه ابتكار هندسي سوري خالص قال: «الشكل المربع موجود في ذاكرة المشرقيين عموماً والسوريين خصوصاً كابتكار هم أول من استخدمه وعلمه للبشرية» مستشهداً بنص ورد في الرقم الطينية لملحمة "جلجامش" جاء فيه:

الشكل المربع موجود في ذاكرة المشرقيين عموماً والسوريين خصوصاً كابتكار هم أول من استخدمه وعلمه للبشرية

«اسمع يا كوخ وافهم يا حائط

المربعات الأولى في العمارة البشرية

يا رجل شروباك، يا ابن "اولارا توتو"

قوض البيت وابن لك فلكاً

تخل عن مالك وانج بنفسك،

واحمل في السفينة بذرة من كل ذي حياة

المربع في أعمال هيشون

والسفينة التي ستبني عليك أن تضبط مقاسها

ليكن عرضها مثل طولها

واختمها جاعلاً إياها مثل مياه العمق».

بيت سوري قديم يدمج المربع مع المستطيل

ربما كان هذا هو المخطوط الأول الذي يذكر فيه الشكل المربع وضمناً "المكعب" بهذا الوضوح، وتبقى ملحمة "جلجامش" قضية مثيولوجية، لكن هناك أدلة ملموسة على أن استخدام المربع والمكعب في الهندسة المعمارية موثق في "سورية" من فترة أبعد وقبل غيرها من أي مكان آخر، ففي شمال الفرات منذ الألف الثامن قبل الميلاد أبدع الإنسان السوري هذا الابتكار الهندسي المذهل، أكد ذلك الباحث الآثاري الكبير "جاك كوفان" في كتابه "القرى الأولى في بلاد الشام، من الألف التاسع حتى الألف السابع قبل الميلاد" ترجمة الراحل "إلياس مرقص"؛ حيث أورد فيه كنتيجة لأبحاث ودراسات مشهود لها عن الانتقال من البيت المستدير إلى المستطيل، وكتب: «هذا الانتقال يحصل في شتى أرجاء العالم، لكن في عصور بالغة التنوع يبدو أنه كان على الفرات أبكر منه في أي منطقة أخرى، إذ تطل بداياته هنا منذ مطلع الألف الثامن، وعلى مراحل متتالية يتم فيها تعلم تقنية الجدار المستقيم: في المرحلة A بالمريبط، هذا الجدار يخدم في التقسيم وحسب؛ وهنا نكشف تقنيات قطع الأحجار والتسليحات الخشبية. في المرحلة الثالثة B فقط، بموقعي "المريبط والشيخ حسن"، يحطم القيد الأصلي الذي هو المجال المستدير وتتراصف الخلايا المربعة في شكل "ضامات" غير مرسومة داخل دائرة. بما أن ضيق حجم هذه الخلايا يستبعد استعمالها السكني ويرجح استعمالها كصوامع، إذن فالريازات الأولى المستطيلة فعلاً إنما تتظاهر بوصفها إنشاءات ملحقة، متميزة في "المريبط" عن البيوت بحصر المعنى. وأخيراً يكون لدينا في "الشيخ حسن"، أيضاً في المرحلة الثالثة B، أول شهادة على مسكن مستطيل قائم الزوايا ينبئ بالبيوت الكبيرة المتعددة الغرف التي ستظهر في المرحلة الرابعة بـ"المريبط" و"أبو هريرة"».

في تعليقه على هذا النص كتب لنا من باريس بتاريخ 7 تشرين الأول 2014، المهتم بالتاريخ والآثار السورية الباحث الشاب "وعد المهنا" يقول: «الواضح مما كتب "كوفان" أن علم الهندسة كان ناضجاً في الفترة الزمنية التي درسها وأعتقد أننا لو اطلعنا على ثقافة السوري في المغارات وجدرانها فسنجد تلك الأشكال بدأت مرسومة على الجدران».

وبخصوص علم الهندسة في "سورية" أردف: «ظهور الأشكال الهندسية لم يكن محصوراً بالعمارة وبشكل عام بلا أدنى شك ظهر في المنطقة كل ما في علم الهندسة تم اكتشافه على أرض "سورية والعراق"، وقد كتبت مقالاً منذ سنوات عديدة يشرح كيف أن حجراً كان في متحف بغداد تم سرقته بعد الاحتلال الأميركي يسقط أبوة إقليدس للهندسة وينفي نسبة فيثاغورث للعلاقات العددية في المثلث القائم، فقد أثبت هذا الحجر أن النظرية معروفة قبل فيثاغورث بألف ومئتي عام على الأقل».

في زمان آخر ومن نفس المكان ما زال السوريون يحنون إلى هذا الشكل المترسخ في ذاكرتهم، سواء كان ذلك عن قصد أم من غير قصد، ففي عالم الفن التشكيلي يظهر المربع في حلول إبداعية للعمل الفني سواء من خلال التقسيم الشطرنجي للوحة أو من خلال حلول أخرى، كما لو أن مدرسة مستقلة بحد ذاتها تولد من تلك الاستخدامات لتكوّن مدرسة سورية مستقلة، فنجده في أعمال كثيرين، منهم فنانون ارتقوا لمستوى العالمية مثل: "فاتح المدرس"، "نزار صابور"، "مصطفى علي"، وبالتأكيد ظهر المربع في لوحات "هيشون"، وصديقه "محمد أسعد - سموقان" الذي يحدثنا عن ذلك فيقول: «إن أي شكل هندسي يستخدمه الفنان هو عبارة عن حل تشكيلي يفيد الفنان في توضّع عناصره، سواء داخل المربع أو خارجه، إضافة إلى أن المربع كغيره من الأشكال الهندسية، له صفة شرقية زخرفية، ويتواجد في أغلب النقوشات القديمة وحتى الفن الإسلامي، إذن هي ناحية لها طابع شرقي وفي كثير من الأحيان روحاني، إضافة لما يقدمه المربع من إغراءات للفنان في وضع حلول للوحة، فيتخلص من المساحات الكبيرة المتروكة في الفضاء أو خلفيات عناصره، فيزينها بهذه الأشكال».

وعن ظهور هذا الشكل الهندسي في أعمال "هيشون" يقول "سموقان": «"هيشون" استخدم المربع في أغلب أعماله وهو يرفض أن نصفه بأنه فنان فطري، فهو الدارس للرياضيات والفيزياء، وكاتب للقصة والدراسات الفلسفية، وفي أكثر من تصريح له، قال إن لوحته هي لوحة عقلانية بامتياز، ويبدو أنه يشغل الروح والعقل في لوحاته التي هي استمرار طبيعي لما أنتجه العقل السوري القديم، سواء كان في المربع الذي يحمل ذاكرة المكان، أم في الأشكال الأخرى التي يقدمها وتحمل ذاكرة الشكل».

الآن يعد المربع وحدة البناء الأولى الذي يعتمده علم الهندسة ابتداءً من فن العمارة وصولاً إلى الشاشات النقطية أو حتى برمجة الكمبيوتر، لكن المربع ومنه المكعب شكل نادر الوجود في الطبيعة، ولربما تعلم الإنسان رسم الدائرة وتطبيقاتها من الشمس أو القمر، ورسم المثلث من تسنن الجبال والمخمس والمسدس من الكائنات الحية كنجم البحر وخلايا النحل، لكن للمكعب ظهوراً نادراً جداً في الطبيعة أكثر من يعرفه هم الجيولوجيون، وفي هذا الخصوص يحدثنا الجيولوجي "صفوان داوود" فيقول: «يظهر المكعب في الطبيعة في عدد قليل من بلورات الفلزات ومنها الغالينا، والبيريت، والفلوريت، والهاليت أي ملح الطعام، لكن ظهورها هذا يأتي بقياسات ميكروية أي أصغر من أن تدركه العين المجردة، وهو نادراً ما يكون واضحاً للعيان كما في فلزات البيريت».

إذن يصعب أن يكون الإنسان قد استلهم هذا الشكل من الطبيعة لندرته، وإن كان "هيشون" على حق أو "كوفان" أو "داوود" فللسوريين الحق أن يدعوا أنهم أول الشعوب التي أبدعت أو حتى استثمرت هذا التكوين وعلمته للبشرية.