على متن قارب شراعي سافر وحيداً من "عكا" إلى "اللاذقية" في العام 1984، فالبحر معشوقه الذي أمضى حياته بين أمواجه واضعاً كل إمكانياته في خدمة الصيد والصيادين، فكان مؤسس أول نقابة للصيادين في "سورية".

ولد الحاج "عباس رنو" في العشرينيات من القرن الماضي لعائلة تعمل في الصيد، فعمل مدةٍ في الميناء، وتعلم هناك الكثير من فنون الصيد وأتقن صناعة الشباك، يقول الحاج "رنو": «نشأت طفلاً على ظهر المركب في عرض البحر، تعلمت فنونه وأتقنتها جيداً، كنت أمضي الأيام والليالي في الصيد، وفي عام 1948 خضت أطول رحلة (ليست للصيد) في حياتي على ظهر المركب، إذ أتيت به من "عكا" إلى "اللاذقية"، كانت رحلة شاقة استمرت ثلاثة أيام على ظهر مركب شراعي لا تتجاوز مساحته ثمانية أمتار، وقد استخدمته لسنوات طويلة وعلمت عليه العديد من الصيادين».

لا أعرفه شخصياً، لكنني أراقبه أحياناً وهو يعمل، ويعجبني فيه إصراره على العمل رغم تقدمه في السن

في تلك الفترة لم يكن الصيد مزدهراً في "اللاذقية" رغم عدد الصيادين الكبير بحسب الحاج "رنو" الذي تحدث لمدونة وطن "eSyria" في 24 كانون الثاني 2015، يقول: «كان لدينا آنذاك بضعة أنواع من الشباك فقط، وظروف الصيد صعبة، فالأدوات بدائية والعوائق ليس بقليلة، إلا أن الأسماك في البحر وفيرة، وقد حاولنا تطوير العمل وأدخلنا فيه شبكات جديدة كـ"البشلولة، الجرف"، وغيرها».

مركبه الشراعي

عمل صيادو "اللاذقية" آنذاك في ظل قانون عثماني جائر، ظل ساري المفعول حتى الوحدة بين "سورية" و"مصر"، يوضح الحاج ماهية القانون قائلاً: «كان على الصياد أن يبيع كامل صيده للملتزم (موظف الحكومة) بأرخص الأثمان، دون أن يتمكن حتى من أخذ بعض الأسماك إلى منزله ليأكلها أطفاله».

حاول الحاج "عباس" إلغاء هذا القانون لكنه لم يكن يمتلك القوة التي تخوله ذلك، وهو ما دفعه لتأسيس نقابة تجمع الصياديين في "سورية" كان ذلك بحسب الصياد الكبير في العام 1958؛ يقول الصياد: «ضمت النقابة 12 ألف صياد من حدود تركيا إلى لبنان، وكانت قوية جداً وتعدادها مؤثر ومساعد، مع تأسيسها أصبح لدينا كيان ويمكننا التحدث باسمه؛ وهو ما دفعني للانطلاق في رحلة رفع الظلم وإلغاء قانون الملتزم».

محاضر اجتماعات النقابة في عامي 1958 و1959

أرسل رئيس أول نقابة للصيادين في "سورية" عدة كتب إلى الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" يطالبه فيها بإلغاء القانون، إلا أن رد الرئيس تأخر، يعلق رئيس النقابة: «بعدُ المسافة إلى القاهرة -مكان إقامة الرئيس آنذاك- وسوء الاتصالات أدى إلى تأخر الرد، لكنني لم أستطع الانتظار فذهبت إلى نائب الرئيس "عبد الحميد السراج"، والتقيته في منزله وشرحت له الموقف، فطلب مني أن أنتظر أسبوعاً لأن الموضوع أصبح في يد الرئيس "عبد الناصر"، وقال أطمئنك فالقضية منتهية والقانون سيلغى».

يتابع: «عدت إلى "اللاذقية"، وأثناء جلوسي أمام منزلي أتاني المساعد البحري رئيس الميناء "ماجد النوري" وأخبرني أنه تسلم كتاباً بإلغاء قانون تسليم الصيد للملتزم وهو ممهور بختم الرئيس "ناصر" ونسخة منه للمالية، لتنتهي بذلك حقبة مظلمة من تاريخ الصيد والصيادين السوريين، وكان القرار فرحة لأعضاء النقابة الذين تجمعوا بالآلاف أمام مقرها آنذاك في آخر شارع الأميركان حالياً، حيث قلت لهم حينها: لقد كنتم عبيداً وأصبحتم أحراراً، بيعوا أسماككم حيث شئتم».

الصياد عباس رنو

يؤكد صياد "اللاذقية" الشهير أن الكتب التي أرسلها للرئيس "ناصر" شارحاً فيها مساوئ القرار كانت محط إعجاب الرئيس، ويستشهد بالقول: «عندما جاء "عبد الناصر" إلى "اللاذقية" التقيته في نادي الضباط، وحين رآني أدخل مع رؤساء النقابات عرفني من زيي وقال لي باللهجة المصرية: "أهلاً سي عباس، ربنا يقويك ويحفظك"، فقد حفظ اسمي من كثرة ما أرسلت إليه كتباً لإلغاء قانون الملتزم».

بعد أن بات الصيادون أحراراً بحسب وصف الحاج "رنو"، ازدهرت مهنتهم وأتيح لهم ما كان ممنوعاً في السابق، فأقدم شيخ الصيادين على فتح مسمكة يبيع فيها صيده وصيد من أراد من الصيادين، يقول "رنو": «إنها أول مسمكة خاصة في المحافظة كلها، وقد رافقها افتتاح عدد من المسامك، وزاد مدخول الصيادين وباتت مهنة مربحة وتؤمن لهم حياة كريمة، حيث كان موقع مسمكتي آنذاك في حي "المار تقلا" بناء "المطرجي"، ومن خلالها أبيع الأسماك والشبك، وكذلك أقوم بصيانة شباك صيد المينا».

الصياد الذي قارب التسعين من العمر ما زال إلى الآن يعمل في صناعة الشباك، وقد علّم هذه المهنة سابقاً لعدد كبير من نساء "اللاذقية" اللواتي كن يعملن بها في بيوتهن ويؤمنَّ من خلالها دخلاً جيداً، فقد كان "رنو" يشتري الخيوط من "حلب" ويصنعها في "اللاذقية"، وكان يعتاد في البداية خيوط القطن ليستبدلها لاحقاً بخيوط النايلون.

لم تقتصر جهود "أبو حسين" على تعليم صناعة وصيانة الشباك، وإنما امتدت إلى الصيد حيث تعلم على يده تسعة بحريين ومثلهم من صناع الشباك.

يعد عميد مهنة الصيد في المحافظة من الصيادين المغردين خارج السرب بطريقة صيده التي يحدثنا عنها قائلاً: «عندما تهب العاصفة يعود الصيادون إلى بيوتهم، أما أنا فأُقلع في مركبي لأمد شباكي في البحر، مواجهاً الأمواج العالية والرياح، أذكر أنني كنت الصياد الوحيد الذي يفعل ذلك».

وعن سبب اختياره للصيد في ظل العاصفة يقول: «أثناء العواصف يتوه السمك في البحر ويعلق بسهولة في الشباك، حيث تختلط مياه الأنهار مع مياه البحر وتصبح المياه عكرة؛ الأمر الذي يسهل صيد الأسماك بالشبكة».

ولهذا النوع من الصيد شروطه وأدواته يقول "رنو": «لكي أمنع انجراف الشبكة مع الموج كنت أزيد وزنها من خلال وضع حجارة في أسفلها لتثبيتها وجعلها مقاومة أكثر، وعندما يحين الموعد آتي إليها ومعي البحري لسحبها، وفي حياتها لم تخذلني تحت العواصف والأمطار كنت أعود بأوفر صيد، فالصيد ليلاً في أوقات العاصفة هو الأفضل».

الصياد الذي يعد من كبار الصيادين في المحافظة علّم الناس لكنه لم يعلم أبناءه ولم يرثه أحد منهم، يقول نجله "حسين": «إنه صياد شجاع، يعمل في ظل ظروف قاسية جداً، لذا كان من الطبيعي أن لا نرثه لأننا غير قادرين على العمل في نفس الظروف التي يعمل بها».

مازال الحاج "رنو" ذائع الصيت بين الصيادين رغم تقدمه الكبير في العمر، يقول الصياد "باسم بربور": «سمعت عنه الكثير من والدي، خصوصاً عن تأسيسه للنقابة التي كان لها فضل كبير علينا كصيادين، وهو أيضاً من أشهر صانعي شباك الصيد، ويعرف عنه جودة الشباك التي ينتجها ويحسن صيانتها».

رفاق العمر ما زالوا يجتمعون في محل الحاج "رنو" الذي يعد ملتقى لهم، يقول الصياد "كمال نجا": «لطالما جمع الصيادين وكان سبب لقائهم، هو اليوم شيخ الصيادين ومرجعيتهم، لديه خبرة عمرها عقود من الزمن، وقد كان مضرب مثل بطريقة صيده عندما كان في قوته ويخرج إلى البحر للصيد».

جيران هذا الرجل الطيب يكنون له الكثير من الود، يقول "إياد غصن" وهو من شبان الحي: «لا أعرفه شخصياً، لكنني أراقبه أحياناً وهو يعمل، ويعجبني فيه إصراره على العمل رغم تقدمه في السن».

ما زال الصياد الكبير يرفض أن يستسلم للعمر، وهو يخرج يومياً إلى عمله في محله المخصص لصيانة وصناعة الشباك، يعلق على ذلك قائلاً: "الجلوس بلا عمل يعني موتي، المهنة تسير في عروقي".