رغم كل ما مر به، خرج من ذلك الدكان الصغير، ليقلب أوراق الزمان ويحللها باحثاً عن جمع شتات الروايات والقصص، ويجسد شخصياتها ويرسم تفاصيل الكلمة بحذر، فلم يلق نفسه إلا على طاولة النسيان مع بياض الشعر وتلك النظارة وأقلام تنتظره في كل ساعة ليخط بها تلك التجسيدات والتفاصيل والحكايات.

"سجيع قرقماز" هو ذاته الكاتب والراوي والقصصي والمخرج والباحث الأثري ومدرس اللغة الانكليزية، وطالب المسرح والأب النبيل والولد العنيد المتمرد، هو ذاته الكلمة التي ظل يصادقها ويربيها حتى اليوم من مكتبه الصحفي في مكتب جريدة الثورة اليوم في "اللاذقية".

ينقص الفعل الثقافي شيءٌ بسيطٌ جداً هو أن يكون محلياً، وما نقرؤه ونتابعه، وخاصةً في مجالات التجريب والمذاهب الجديدة، لا يتناسب أبداً مع ثقافتنا، تلك المغموسة بالأسطورة والملحمة، وحكايات الجدات، ولا مع أي مذهبٍ أدبيٍ موجودٍ بالفطرة أو مفترض، من هنا فإن التوجه إلى تاريخنا، والاستفادة منه، وتعميمه، تطويره في قوالب حديثة، كل ذلك يؤدي لوصولنا إلى الشكل والمضمون الفكري المناسب لنا شكلاً وموضوعاً

موقع eLatakia زار الأستاذ الصحفي "سجيع قرقماز" في مكتبه في جريدة الثورة، وأجرى حواراً مطولاً معه بدأناه بسؤال صريح عن بداياته المميزة والبريئة الطالع أن صح القول فقاطعني ليقول: «ابنتي "راما" في 9 آذار 2010 ستبلغ السابعة من عمرها، كانت في الرابعة عندما أمرتها بأن تقوم بفعلٍ معينٍ، رفضت، وعاندت، وأصرت. طبعاً كوالدٍ يريد تأديب ابنته رفعت يدي لأصفعها، لم يطرف لها جفن، ونظرت في عيني بتحدٍ، حينها لم أشعر إلا بيدي تتراجع، ويتراجع معها شريطٌ قديمٌ من الذكريات يعود لعام 1958 عندما كنت في عمرها، رفع والدي يده ليضربني، لم يستطع الوصول إلي، حاول بأكثر من وسيلة عبثاً، إذاً المشهد يستعاد، بعد حوالي خمسين عاماً، عقلية الولد المشاكس الذي يفعل ما يراه صحيحاً دون الأخذ برأي أحد، هكذا كان "سجيع" في الرابعة من عمره وهو يتمرد على والده، أما والدتي فلم أكن أجرؤ على التمرد عليها، كانت طيبةً ومحبةً إلى درجةٍ كبيرة ما جعلني لا أتمرد عليها طوال حياتها، تمردي على والدي استمر في مختلف مراحل حياتي، أرادني في البداية أن أساعده في "محل السمانة خاصته" والذي ما يزال فيه حتى اليوم، في عمره التسعين، لكنني تفوقت في دراستي، وفي المرحلة الإعدادية أرادني أن أجتهد لأصبح طبيباً، فعاندته بأن أهملت الرياضيات والعلوم والفيزياء والكيمياء، لأتحول إلى القسم الأدبي في المرحلة الثانوية بدل العلمي، وأدرس في كلية الآداب قسم اللغة الإنكليزية فيما بعد، حيث بدأت الدراسة في الجامعة يوم 6 تشرين الأول 1973 بدلاً من الطب الذي يرغبه والدي وقتئذٍ».

سجيع في مكتبه

يتابع "قرقماز" حديثه عن بداياته: «في المرحلة - قبل الجامعية - أنهيت قراءة روايات تاريخ الإسلام للكاتب "جرجي زيدان"، وبعض دواوين "نزار قباني"، ومعظم روايات "نجيب محفوظ"، و"إحسان عبد القدوس"، والتي كنا نتابعها أفلاماً مهمةً في السينما العربية حينها، وكنت أراسل حينها بالإنكليزية والفرنسية إذاعة مونتي كارلو وصوت أمريكا للاستماع إلى الأغاني العالمية المعروفة يومها "إلفيس، فرانك سيناترا، بيتلز، إنغلبرت همبردينغ، توم جونز.." إذاً أنا موجودٌ في العالم ولست نكرة، وهذا ما تابعته في ما بعد بعلاقاتي مع العالم، وكان هذا واضحاً في بعض الخواطر التي كتبتها حينها، والتي ما أزال أحتفظ بها».

أما المرحلة الواعية لدى "قرقماز" فيحدثنا عنها قائلاً: «تبدأ مرحلة الوعي في حياتي في الجامعة وبداية كتابة المقالة الأدبية، والقصة القصيرة، والانخراط في العمل المسرحي من خلال فرقةٍ مسرحيةٍ محترفةٍ "فرقة المسرح الجامعي في حلب، بقيادة المخرج الفنان "عبد الرحمن حمود"، هذه المرحلة هي التي تؤكد أهميتها من خلال اطلاعي على الأدب العالمي في مختلف مراحله، وخاصةً في دراسة الأدب الإنكليزي الذي كان يتضمن مادةً اسمها "الأدب العالمي" ما جعلني بشكلٍ طبيعيٍ أتجه إلى المدارس العالمية في الأدب والفكر والفن "غوته، دوستويفسكي، همنغواي، موليير...."، دون الخضوع للقيود المحلية بشتى تصنيفاتها، وهذا هو التأثير المهم الذي سيظهر فيما بعد في قراءاتي، وكتاباتي، وحتى في حياتي العملية، وهذا يدل ببساطة أنني منذ البداية اخترت الطريق الأطول والأصعب للقراءة والكتابة، وربما كان هذا هو السبب وراء عدم اهتمام الكثير من النقاد والصحفيين المتابعين للإنتاج الأدبي بما أكتبه».

عن الطريق الصعب الذي رافقه في مشواره العملي الطويل، حدثنا عنه "قرقماز" باختصار ليقول: «أول خطوة خطوتها في الحياة كانت منذ عنفوان الشباب وحيويته، بعد أن التحقت في "كلية الآداب والعلوم الإنسانية" في "جامعة حلب" لدراسة "اللغة الانكليزية"، بعدها عدت إلى "اللاذقية" لأني لم أستطع إكمال دراستي هناك، ومن ثم اتجهت نحو المسرح وكان أول عمل مسرحي أخرجه عام 1977م لكاتب بلغاري وهي مسرحية بعنوان "مطاردو الوظيفة"، وأثناء عرض هذا العمل حاول بعض الأشخاص المتذمرين من المسرح والمتواجدين ضمن النشاط المسرحي إبطال عملي بقطع التيار الكهربائي والعبث بأجهزة الصوت آنذاك ومن ذاك الحين غادرت العمل المسرحي للاتجاه نحو العمل الصحفي تاركاً خلفي مقولة وهي أن المسرح في "اللاذقية" سيبقى كما هو ولن يتطور».

وتابع الأستاذ "قرقماز" ليتحدث لموقعنا عن تجربته في العمل الصحفي حيث يقول: «في ذات الوقت آنذاك عندما تركتُ العمل المسرحي صدرت جريدة الوحدة في "اللاذقية"، حيث بدأ عملي الصحفي فكتبت مقالاً عن المسرح في "اللاذقية"، وذلك بدعوة من قبل المرحوم "نزار درويش" رئيس تحرير جريدة الوحدة آنذاك، وكذلك نشر لي في جريدة الوحدة وقبل بدء دورة البحر الأبيض المتوسط عام 1987م مقالاً يتحدث عن "اللاذقية" كحضارة من حضارة البحر الأبيض المتوسط، وأيضاً كان يقارن هذا المقال الأمس واليوم في "اللاذقية" وقتذاك، وهذا المقال في البداية كان فكرة وفيما بعد تطورت هذه الفكرة حتى غدت كتاباً يتحدث عن "اللاذقية" تحت عنوان "اللاذقية حضارة المتوسط"».

أما كيف تطورت الفكرة لتصبح كتاباً يتحدث عن "اللاذقية" وعن جميع مناحي حياة مدينة "اللاذقية" التي كانت سائدة في ذاك الوقت سواء من النواحي الثقافية والفنية وأيضاً التاريخية فقال الأستاذ "قرقماز": «كتابي الذي يتحدث عن "اللاذقية" كان ثمرةً للمقال الذي نشر في جريدة الوحدة، وذلك عندما قرأ المقال "محمد أحمد سوسو" صاحب ومدير دار المنارة وكان من المثقفين والمهتمين بأي إصدار يتعلق ويخص "اللاذقية"، حيث طلب مني أن أوثق ما نشرته في جريدة الوحدة في كتابٍ يتحدث عن "اللاذقية"، وبما أن علاقتي كانت جيدة حينها مع الكثير من الكتاب المشهورين والمعرفين فقد اهتممتُ بملاحظاتهم واستفدت منها بما يخدم الكتاب الذي رغبت بتأليفه، فقد قمت مستنداً على المقال الذي نشر في جريدة الوحدة بجمع المعلومات التي تخدم الكتاب وتوثيق كل شيء يتحدث عن "اللاذقية" ومن ثم تم طبعه وإصداره حيث شمل جميع النواحي الثقافية والفنية والتاريخية لمدينة "اللاذقية"».

وعن رأيه بحركة الفعل الثقافي في المحافظة علق قائلاً: «ينقص الفعل الثقافي شيءٌ بسيطٌ جداً هو أن يكون محلياً، وما نقرؤه ونتابعه، وخاصةً في مجالات التجريب والمذاهب الجديدة، لا يتناسب أبداً مع ثقافتنا، تلك المغموسة بالأسطورة والملحمة، وحكايات الجدات، ولا مع أي مذهبٍ أدبيٍ موجودٍ بالفطرة أو مفترض، من هنا فإن التوجه إلى تاريخنا، والاستفادة منه، وتعميمه، تطويره في قوالب حديثة، كل ذلك يؤدي لوصولنا إلى الشكل والمضمون الفكري المناسب لنا شكلاً وموضوعاً».

وعن الموقع الذي يشغله فيما إذا كان يستحقه أم لا، قال "قرقماز": «مكاني مناسبٌ لي وغير مقروء بدقة من محيطي، وهذا لا يقلقني، أعرف أنني أسبق أبناء جيلي وأجيالاً أخرى كثيراً، لذلك لا أتطلع إلى رضاهم، لأني واثقٌ أن المستقبل لي، وليس لهم، لرياض السنباطي، ولن يكون في يومٍ من الأيام لأصوات هذه الأيام، وكذلك لزياد الرحباني، ولن يكون يوماً لأيٍ من عارضات الأزياء، المنصب مهمٌ جداً للإنسان العادي، ولن يكون له أي تأثير اليوم ولا غد بالنسبة لي ولأمثالي، رغم كل التطورات والأشياء الجديدة، التي تغري الآخرين كثيراً لكنها لن تغرينا».

أخيراً يخمن "قرقماز" ويتحدث عن الجيل القادم وكيف يراه من موقعه القريب منهم وهو أب ولديه أطفاله ويعلم مساوئ المناخ المحيط بكل تفرعاته وخصوصياته: «بصراحة أعطف على الأجيال القادمة- الوافدة- التي لم تطرب "لأم كلثوم"، ولم تسمع "السنباطي" لحناً أو كلمةً ولم تصرخ إعجاباً "بفايزة أحمد وعبد الحليم حافظ"، ولم تحضر حفلاً موسيقياً "لفريد الأطرش" في إستاد العباسيين في "دمشق"، أو مسرحيةً للعظيمة "فيروز" في مسرح معرض دمشق الدولي، واكتفوا بالسيدة "عالمة الفلك" وتوقعاتها، وهذا ينعكس ليس على جمهور المهتمين بالفن، بل على المتابعين للثقافة والفكر المرتبطين أصلاً بالجانب الفني».