لطقوس الطبخ أثناء جني الموسم وعند الانتهاء منه وقع خاص تستعاد فيه الطبيعة الأم وتستحضر قصص الأزمنة القديمة؛ عدا التضامن الاجتماعي الذي تحتاج إليه هذه المواسم حتى تجنى.

وتأتي المحافظة على هذه التقاليد الاجتماعية المرتبطة بالمواسم لما في ذلك من إيمان بأن المواسم هي في جزء منها من روح الطبيعة ومن خيراتها التي تزيد إذا أحسن الإنسان تقديرها والاهتمام بها.

من وصفات المطبخ الريفي الشهيرة في الساحل السوري حتى اليوم، وتترافق مع طقوس انتهاء المزارعين من زراعة أي موسم مثل الحنطة أو الزيتون، فتقدم في شهر حزيران عند انتهاء موسم الحصاد للحنطة على البيادر، ثم أثناء عملية درسه، وأخيراً عند نقل الحبوب بعد الانتهاء من درسها إلى البيوت

من أبرز طقوس جني المحاصيل طبخ الأكل على الحطب، كذلك الفطائر على النار، ومنها "السيالات" التي تعدّ أقدم هذه الطقوس جميعاً، ويرتبط طقسها بوجه أساسي بمواسم العمل الشاق لدى المزارعين. يذكر المزارع "ممدوح علي" في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 13 تشرين الثاني 2015، أن تقليد الطبخ أثناء جني المواسم الكبيرة نسبياً كالقمح والشعير والزيتون؛ قديم ما يزال جزء منه مستمراً إلى الآن، لكن لم يعد منتشراً بكثرة بسبب استخدام التقنيات الحديثة التي اختصرت الوقت اللازم لجني هذه المحاصيل، وقال: «في جني القمح كان هناك أكلة تصنع من القمح الطري المدقوق في الأجران وغير المقشور، يضاف إليه اللبن وهي "المتبلة"، وهي ما تزال تقدم للحصادين حتى اليوم، وتقدم باردة عادة كي تروي ظمأهم؛ خاصة أن طقس الحصاد يتم في (عز الحرارة والشوب)، وفي جني الزيتون تستمر التقاليد في طبخ الحنطة على الحطب، على أن يكون الوعاء هو "المقلي" المصنوع من الفخار، فطعم الأكل في الطبيعة باستخدام هذا الوعاء "لا يعلى عليه" أي أكلة في العالم، والسبب أنها تجمع في حضورها العائلات وضيوفها ممن يقطفون الزيتون في طقس اجتماعي يتبادلون فيه ليس العمل فقط، بل والأحاديث والتعاون والتعرف إلى حيوات بعضهم بعضاً».

أثناء التجهيز للطبخ

أما "السيالات"، فهي كما تقول ربة المنزل "مريم إبراهيم": «من وصفات المطبخ الريفي الشهيرة في الساحل السوري حتى اليوم، وتترافق مع طقوس انتهاء المزارعين من زراعة أي موسم مثل الحنطة أو الزيتون، فتقدم في شهر حزيران عند انتهاء موسم الحصاد للحنطة على البيادر، ثم أثناء عملية درسه، وأخيراً عند نقل الحبوب بعد الانتهاء من درسها إلى البيوت».

عرفت هذه الأكلة شعبياً باسم أكلة "الخلوص" أو "الخلاص" لارتباطها بنهاية مواسم العمل الشاق، فالحصاد يمثل عملاً شاقاً جداً يمتد طوال أيام حارة؛ ترافقه بوجه خاص طقوس أكل تهتم بكونه من الأعمال الشاقة، ومنها أكلة "المتبلة" أيضاً.

هكذا تشرب الزيت

وتابعت "إبراهيم": «لصناعة "السيالات" تعمد سيدة البيت إلى تجهيز كمية وافرة من العجين ذي القوام اللزج والمائع؛ حيث يكون أقرب إلى السائل منه إلى العجين التقليدي، حتى يمكن للسيدة أن تغرف منه باستخدام "الطاسة" النحاسية أو بيديها ثم ترقيقه وسكبه فوراً على الصاج الساخن؛ فيسيل في كل الاتجاهات أثناء نضجه وقبيل النضج بقليل، ويسقى باستخدام زيت الزيتون أو السمن البلدي أو السكر المذاب في الماء، وعادة باستخدام زيت الزيتون باعتباره الأكثر توافراً في تلك البيئة، في حين يقتصر السكر على الناس الأغنياء».

تعود أصول هذه العادات وفقاً لكثيرين من الباحثين؛ ومنهم الباحث "برهان حيدر" إلى أزمنة غير معروفة، لعلها تمثل نوعاً من المكافأة لجهود المزارعين لأنفسهم في العمل الشاق الذي أمضوا فيه أياماً وليالي، وقد تكون بدأت في الأيام التي كان لا بد فيها من حماية المواسم من السرقات من قبل الأغراب واللصوص، وتابع "حيدر" في كتابه "لمحات من التراث الساحلي" الصادر عن وزارة الثقافة السورية الجزء الأول: «إن الناس كانت تبقى أياماً في الحقول لجني محاصيلها، ومنهم من كان ينام على البيادر لحماية محصوله من القمح من أي احتمال للسرقة أو الحرائق، خاصة أيام الاحتلال العثماني الذي كان كثيراً ما يقوم على سرقة المحاصيل وفرض الضرائب على الناس، وعموم هذه الأكلات اعتمدت على القمح كثيراً، وهذا أمر طبيعي حيث يعدّ القمح المنتج الأكثر حضوراً في ثقافة المشرق العربي».

التجهيز

بقيت تلك العادات موجودة إلى اليوم وإن كانت قليلة، إلا أنها بحضورها المستمر في الذاكرة الشعبية تؤكد تلك العلاقة الوثيقة التي تربط الإنسان بالطبيعة وبتقديره لنفسه وللآخرين معه.