تستلقي "سيلينا حمدان"، الطفلة الصغيرة في أرجوحتها الهوائية أمام بيت جدتها، وما أن تغني لها جدتها "هنهونة" من هنا، و"هنهونة" من هناك حتى تذهب في سبات عميق.

هذا المشهد النادر هذه الأيام، التقطته كاميرا مدونة وطن "eSyria" في قريرة "البصة" (2كم عن مدينة "اللاذقية")، وتقول فيه الأسطورة المشرقية إنه بدأ مع "ليليت"، أخت حواء الغامضة، تلك التي كانت تغني للأطفال أغاني النوم في العهود البشرية الأولى، ثم انتقل إلى الأمهات والجدات اللواتي حملن هذا العبء بعد أن حوّلت الأسطورة "ليليت" إلى "غولة" تخوّف بها الأمهات الأولاد حتى يناموا أحياناً، متحولةً في الذاكرة المشرقية والإنسانية ككل إلى "أمنا الغولة".

يمكن اعتبار "الهنهونة" جزءاً من فلكلور عتيق في مجتمعات العالم ككل. عُرفت في الساحل السوري منذ اكتشفت على بعض ألواح "أوغاريت"، ويضيف: «وغايتها تتمثل في تهدئة الأطفال حتى يناموا نهاراً وسط أشغال الأم الكثيرة في المجتمع الريفي من طحن وخبز وغسيل وتجهيز طعام وتنظيف ورعاية الحيوانات الداجنة؛ إضافة إلى أعمال الحقول من حصاد وحش وقطاف وغيرها، أو أنها تستخدم أحياناً لطقوس أخرى غايتها إبقاء الطفل تحت أنظار الأم من جهة، وإشعاره بأن هناك من يهتم به أيضاً في ظل انفراده بالأم في البيت ووجود إخوته -مثلاً- في الأرض أو المدرسة، وهي تختلف عن أغاني ما قبل النوم في الليل، التي لها ترتيبات أخرى وأنماط أغنيات مختلفة

أحد نماذج هذه الأغاني التي تظهر طقس ذاك الزمان ما تسمى "الهنهونة"، وهي كما يقول الباحث اللغوي والتاريخي "منير صبح سعيد" في حديث معنا بتاريخ 28 نيسان 2015: "مشتقة لغوياً من كلمة "هنن" وهي كلمة فصيحة تعني هنن وحنن، وهي كلها متشابهة في المعنى ومنها "الهنين والحنين والأنين"؛ وتعني تهدئة الأطفال حتى يناموا في مختلف الظروف والحالات، وقد وردت في قاموس العرب وغيره من المعاجم بنفس المعنى".

الأم والهنهونة ـ جميع الحقوق محفوظة

"الهنهونة" جزء من مجموعة ترانيم شعبية عرفت في الريف بالدرجة الأولى، لا يعرف لها تاريخ نشأة محدد، فهي نتاج مجتمعي تطور تدريجياً ليصبح مجموعة أناشيد وأغانٍ ترتلها الأمهات في طقوسهن اليومية مع الأبناء والبنات، يذكر الباحث "عيسى أو علوش" بقوله: «يمكن اعتبار "الهنهونة" جزءاً من فلكلور عتيق في مجتمعات العالم ككل.

عُرفت في الساحل السوري منذ اكتشفت على بعض ألواح "أوغاريت"، ويضيف: «وغايتها تتمثل في تهدئة الأطفال حتى يناموا نهاراً وسط أشغال الأم الكثيرة في المجتمع الريفي من طحن وخبز وغسيل وتجهيز طعام وتنظيف ورعاية الحيوانات الداجنة؛ إضافة إلى أعمال الحقول من حصاد وحش وقطاف وغيرها، أو أنها تستخدم أحياناً لطقوس أخرى غايتها إبقاء الطفل تحت أنظار الأم من جهة، وإشعاره بأن هناك من يهتم به أيضاً في ظل انفراده بالأم في البيت ووجود إخوته -مثلاً- في الأرض أو المدرسة، وهي تختلف عن أغاني ما قبل النوم في الليل، التي لها ترتيبات أخرى وأنماط أغنيات مختلفة».

الباحث منير صبح سعيد

تغني الأم "الهنهونة" في عزّ أشغالها وهي تبتسم لوليدها المعلق على ظهرها، أو لذاك الذي يدور حولها منتظراً لحظةً يتعلق فيها برقبتها أو ليجلس في حضنها، تقول الباحثة "فريال سليم الشويكي" التي وثقت في العديد من كتبها أنماطاً من هذه الترانيم في الساحل السوري: «كانت "الهنهونات" تغنى للأطفال في مختلف الحالات، في السرير، وفي "الصيادة"، وعلى الأرجوحة، وفي الحقل أيضاً، تقول واحدة منها:

"هي يا الله حمودة ينام

نيمتو وما كان ينام

نيمتو بسرير جديد

ليلة فرح ليلة عيد

با الله عليك يا أم سعيد

هزي لابني تا ينام

نيمتو بالصيادة

جرى القانون والعادة

با لله عليك يا سعادة

هزي لابني تا ينام

نيمتو بالمرجوحة

وجحتو جوحة على جوحة

با لله عليك صلوحة

هزي لابنيي تا ينام".

لم تكن "الهنهونة" نتاجاً غريباً على بيئة تفوقت فيها العلاقات الإنسانية على الأعمال والأشغال، فالحب الذي يتدفق سلساً في هذه الترانيم يتسرب إلى الأطفال الأشقياء وينقلهم إلى عالم الأحلام الجميل، تقول إحداها (من الباحثة الشويكي):

"نيمتو ما كان ينام

وفرشتلو ريش نعام

نيمتو بسرير جديد

يوم قدومو يوم العيد

يا ربي تكبر وتزيد

وتحرس كل بلاد الشام

سهراني عليك عيوني

وما زار النوم جفوني

وببقى مثل المجنونة

إن حلت فيك الآلام".

من طقوس الريف في تلك الأوقات استخراج الزبدة من اللبن بطريقة "الخض"، وهذه كانت تترافق مع "هنهونة" ما تزال حتى اليوم متداولة وإن اختفت الوظيفة المترافقة معها، فاليوم تغنيها الأم وهي تحمل طفلها أو ترضعه، تقول "الهنهونة":

"خض خضيضة يا ملاح: جيب السمنة للفلاح

جيب السمنة لأحمد: ياكلها ويروح مرتاح

جيبوا السمنة خضّوا: ولأحمد لا تطعمّوا

روحوا طعموه لسعيد: وخليه ينام ويرتاح".

تشمل هذه الترانيم مختلف طقوس الحياة اليومية المرتبطة بالغذاء للطفل أو بالمشي أو باللعب أو بالنوم ولا تنحصر فقط في تنويم الأطفال، تقول إحداها مشجعةً الطفل على المشي، وهي ما تزال متداولة إلى اليوم أيضاً:

"دادي يا الله ويا الله

دادي يا ما شا الله

دادي يالله يمشي

ودادي تا ادبح كبشي".

والأخيرة منها تنذر فيها الأم كبشاً إذا تأخر طفلها في المشي، ويشترط في الكبش أن يكون منذرواً منذ ولادته ليكون نذراً لهذا الطفل، ويذبح وسط طقوس اجتماعية تجتمع فيها العائلة والقرية لتفرح كلها بمشي هذا الوليد سواء كان بنتاً أم ذكراً.

اليوم، مع التغييرات الاجتماعية الكثيفة التي طالت الريف تكاد هذه الترانيم تختفي كما اختفت أشياء أخرى كانت تمثل لتلك البيئات مصدراً من مصادر الفرح الدائم، ولعل انتقال المجتمع إلى النمط المدني أبعدنا عن تلك اللحظات الجميلة.