سعى إنسانُ الشرق العربي دوماً إلى تعزيز القيم المجتمعية النبيلة في نفوس الأجيال الجديدة، فخلد تجربته في الأمثال الشعبية، وفي القصص والأساطير، ونرى ذلك جلياً في ثقافة مجتمع "أوغاريت".

حتى اليوم، مازال كثير من "الأمثال السائرة" المستخدمة بين الناس، ممتداً زمنياً إلى حضارات الشرق العربي تلك، من ساحل "أوغاريت" حتى "أور" جنوب العراق، مكتوباً أو مروياً شفاهياً على ألسنة الناس وفي مدوناتهم الكتابية، وكما يقول الباحث الدكتور "بشار خليف" في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 14 حزيران 2014: «نجد أننا أمام منظومة قيمية بديعة، تعبّر عن مكامن النفس السورية التي توهّجت، فأمدت العالم والبشرية بكنوز معرفية وعلمية وفكرية إن كان في ابتكار الزراعة، أو المدن الأولى، أو الكتابة ثم الأبجدية».

من ليس لديه عجوز في البيت، ليأت بقرمة حطب كبيرة ويضعها في البيت

من هنا كانت الحصيلة المعرفية للمجتمع التي تصب في الألواح، تعبيراً عن هذه الثقافة المجتمعية وتطورها ورقيها إلى مرحلة متقدمة، يذكر الباحث "خليف" في تفسير وجود هذه الأنواع من أدب الحكمة، فيقول: «معظم هذه النماذج يعود إلى الألف الثانية قبل الميلاد، أي إلى مرحلة ذروة حضارة "أوغاريت" قبل أن يدمرها الزلزال، ونلحظ مبلغ القيمة الأخلاقية والإنسانية التي تحكمها، ما يدل على حالة إنسانية كانت أساساً في الإبداع والخلق، تقول بعض هذه الحكم:

الإله إيل إله الحكمة والخلق في الشرق العربي

ـ لا تتكلم في شارع مطروق. ‏

ـ لا تقل سوءاً عن الرجال. ‏

عشتار أو عناة إلهة الحب والعطاء

ـ لا تقس نفسك بقويّ.

قبر أحيرام الحكيم أو لقمان عند العرب

ومن العبارات السائرة الصالحة لكل زمان ومكان، العبارة التي تقول: "الآتي من بلاد بعيدة كذّاب بطبيعته"، ولعلنا نلاحظ في هذه الأمثال مدى النضج والإبداع المجتمعي الذي كانت عليه مدننا في عصور ما قبل الميلاد، وبما يعادل خمسة آلاف سنة من الآن، إضافة إلى مدى البعد الأخلاقي والرائز الإنساني الذي كان يعتمل في الحياة الاجتماعية آنذاك». ‏

يبدأ البحث عن هذه الكنوز المعرفية، فيما دوّن على الألواح الطينية في "أوغاريت"، فهناك كمٌّ هائل من القصص التي يسردها الكتّاب الأوغاريتيون، لتكون وثيقة حية على مستويات ذاك المجتمع الحي النابض بالاحترام والتقدير والإنسانية، وقد وجدت هذه الرقم في مختلف المكتبات التي وجدت في المدينة، ومنها مكتبتي "الخندق الجنوبي"، ومكتبة "رابانو"، وخاصة منها ما يتعلق بموضوع العائلة واحترامها بكامل أفرادها صغاراً وكباراً.

لقد قام النظام الأخلاقي في المدينة، كما في كل الشرق العربي، كما يقول الباحث "أ. شيفمان" في كتابه "مجتمع أوغاريت" على وجوب عدم أذية العائلة والعشيرة والمجتمع، وضرورة أن يكون الفرد نافعاً لها قدر الإمكان، وقد تتطلب هذا التقيد الصارم بالالتزامات التي يفرضها على الفرد الوضع الاجتماعي (ص46 من كتابه).

تشمل أنواع الحكمة المجتمعية هذه على عدة مجالات منها ما يتعلق بالحياة اليومية، أو بالتجارة، أو بالزراعة، أو بتربية الأطفال، أو العلاقات مع الآخرين، ومنها ما ارتبط باحترام الأرض والآلهة، ومنها هذه الحكمة الشهيرة حتى اليوم التي تقول: "لا تسخر من إله لم تبتهل إليه"، ومن أجمل إبداعات الحكمة، علاقة الأبناء بأمهاتهم، يذكر الباحث "قاسم الشواف" في كتابه "أخبار أوغاريت"، ما كتب على أحد الرقم متحدثاً عن شاب "أوغاريتي"، سأله شخص من هي أمك؟ فاستغرب السؤال، وقال قصيدة طويلة مملوءة بالحكمة والاحترام والتقدير، ومن جملة ما قاله: "أمي، كنوز الأفق، غزال الجبل ونجم الصباح المتألق، وحلي ابنة الملكة المتبخترة بفتنتها، وتمثال الرخام على اللازورد، وروح العاج الكامل المملوء بالفتنة، أمي هي المطر في الوقت الجيد، وأول الماء للزرع والمحصول الوفير، والقمح الرفيع وثمار الربيع، ومنتوج نيسان، والجدول الناقل للمياه العذبة إلى السهل"، (ص 80 من كتابه). ‏

يجيد الحكيم إدراك معنى الأحداث الماضية من خلال بناء التاريخ الذي يمارسه، تقول الباحثة الفرنسية "صوفي كلوزان Sophie Cluzan" في كتابها "الأمثال والحكمة في الشرق القديم": "يعزى لكلّ حُكْم حكيم، يسمّى "أبكالو" apkallu، أو علاّمة، ويسمى "أومانو" umânu. كانت قد نوّهت إليهم لائحةُ حكماء، ابتدأت بـ"أدابا"، معاصر "ألولو" أول ملك ما قبل طوفاني، وتنتهي بـ"أحيقار الحكيم المشهور" (آبا – إنليل – داري، Aba–Enlil-dari)، في عهد الملك "أسرحدون" (680 – 669 ق.م).

في الشرق العربي القديم، تضع شخصيات الحكماء خبرتها وعلمها تحت تصرف الملك، لخدمته في ظروف السلم والحرب والحياة اليومية للمجتمعات، وقد كان لهم دور مهم ومنزلة عليا في مجتمعاتهم، وقد ربطت الحكمة بكبار السن بالدرجة الأولى، فخبرة هؤلاء المجتمعية منها والحياتية هي المرجعية التي يعاد إليها عند النوائب وعند الأحداث الجسام، يقول مثل من "أوغاريت" مازال حياً إلى اليوم: «من ليس لديه عجوز في البيت، ليأت بقرمة حطب كبيرة ويضعها في البيت».

ومن أبرز مكونات الحكمة المجتمعية في أوغاريت ـكما في الشرق العربي- هو ذاك المسمّى "العدالة الإلهية"، حيث يتضح إقرار الناس بهذه العدالة والثقة بها بشكل كبير، تشرح الباحثة أحد النماذج التي وجد نموذج لها في "أوغاريت"، فتقول: "إحدى المؤلفات الشرقية المتعلقة بالمصائب والعدل الإلهي قصيدةٌ مشار إليها بكلماتها الثلاث الأولى: "لُدلول بل نمكي" Ludlul bêl nêmqi، أو "أريد أن أسبّح بحمد سيد - رب الحكمة". في هذه القصيدة، التي كتبت في نهاية الألفية الثانية على الأرجح، تشابهات مدهشة مع سفر "أيوب"، ومن هنا اسمها: "البارّ المتألّم". هنا، حديث منفرد (مونولوج) لرجل غارق في المصائب ويتساءل عن العدل الإلهي، حيث الإله "مردوخ" هو الإله الوحيد المسؤول عن مصير البشر. فقد الرجل، وقد كان من قبل متنفّذاً في البلاط، كلَّ شيء، ويشكو من عدم استيعابه العذاب الذي يعانيه. مكّنته ثلاثة أحلام متتالية من رؤية شخصيات تتشفّع له وتطهّره. يعي أخيراً أنّ مقاصد الآلهة لا تدرَك، وهو ما يتقاطع مع مفهوم "العدالة الإلهية".

من مقاطع النص: "غضبه لا يُردّ، غيظُه الطوفانُ،

ولكن دائماً ينفرج قلبه ويهدأ خاطرُه،

هو الذي لا تقدر السماوات على تحمّل صدمة يديه،

لكن في راحتيهما السَكينة، والصفح عن الأموات".

تدافع الحكمة في "أوغاريت"، كما في الشرق العربي، عن القيم التقليدية، ولا تقبل الإسراف، وتشدّد على احترام السلطة الإلهية أو البشرية، وتأبى الخطر الذي يمثله أيّ مساس بالنظام من خلال عدم الالتزام بالقانون وأطر الحياة الاجتماعية، نقرأ من بينها:

"إن مضيت وغزوت بلاد العدوّ، جاء العدوّ وغزا بلدك".

"من يملك مالاً كثيراً سعيدٌ بلا ريب، من يملك شعيراً كثيراً سعيد بلا ريب، ولكنّ من لا يملك شيئاً يستطيع النوم". (من كتاب صوفي كلوزان السابق).

نقلت هذه التجارب بين الأجيال بطرق كثيرة، منها تعليم الأطفال هذه الأمثال عن طريق كتابتها على الألواح المسمارية، وقد وجدت منها نماذج كثيرة مكتوبة بخطوط مسمارية مختلفة، وقد ذكر ذلك الباحث "جبرائيل سعادة" في كتابه "التعليم في أوغاريت".

المصادر:

1- قاسم الشواف، أخبار وموسيقا من أوغاريت، الأبجدية الجديدة، دمشق 1999.

2- De Sumer à Canaan, l`orient ancien ET la Bible, seuil - Musée du Louvre, 2005. ترجمة: محمد الدنيا.

3- أ. شيفمان، مجتمع أوغاريت، الأبجدية الجديدة، دمشق، 1995.