فيلسوف سوري لا يقل أهمية عن كثيرين من الفلاسفة العرب، إلا أنه آثر الصمت وسيلة يتقرب بها إلى العلم والفكر، رحل بصمت تاركاً تراثاً غنياً يحتاج إلى رعاية واهتمام.

في مجمل كتبه التي قدمها للقارئ العربي، التي حملت عناويناً رئيسية تؤصل مسألة التجديد الفكري والفلسفي لمسائل مهمة، إضافة إلى تساؤلات الوجود الفلسفية القديمة، بقي الرجل وفياً لثيمات أساسية في رحلته الفلسفية الطويلة، فهو ابن بار للعقل، لم يخضع ولم ينزلق للأدلجة في كل ما كتب، بقي حراً من "عطالة" السياسة في الفكر، ولذلك لقيت كتبه لدى المهتمين حضوراً، في حين بقيت بعيدة عن أصحاب العقل الضيق.

لم يأخذ حقه إعلامياً كسواه من "نجوم الإعلام" المفكرين الآخرين الذين "يقصفوننا" يومياً بتحليلهم لكل شيء

ولد المفكر "أحمد حيدر" في قرية "عين البيضا" عام 1928، وبقي فيها حتى أوائل الأربعينيات يعلمه والده، حتى تمكن من إرساله إلى مدرسة "تجهيز اللاذقية" وبقي فيها حتى الصف العاشر، كما يقول ابنه المهندس "تمام حيدر"، في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 13 كانون الأول 2014، أما الثانوية فقد أكملها وحده ونجح فيها عام 1951، ليدخل من ثم إلى جامعة "دمشق" قسم الفلسفة ويتخرج عام 1955 ويتعين مدرساً في ثانوية "مشقيتا".

ويقول: «درّس الفلسفة في مدارس "أدلب" لسنوات أربع، ثم عاد إلى "اللاذقية" موجهاً اختصاصياً فإلى "الجزائر" لمدة عامين، ليعود إلى "اللاذقية" ويبقى مدرساً حتى تقاعده عام 1989، كان معروفاً لدى أبناء جيله بتواضعه الجم، وحبه الكبير للناس، آثر العمل في الظل بعيداً عن المناصب السياسية وحفلات التكريم التي دعي إليها مراراً».

صدر له أول كتاب عام 1962 عن دار "الآداب" حمل عنوان: "طريق الإنسان الجديد بين الحرية والاشتراكية"، ومثل الكتاب وقتها نقلة أولى في مشروع الرجل لبناء فلسفة عربية أصيلة ترتكز في كيانها على الاستقراء الحقيقي للواقع العربي، وتقديم الحلول المناسبة لما يعتريه من شوائب ونوائب.

تابع المفكر مسيرته الفلسفية بعدة كتب مهمة، فصدر له كتاب "حضارة جديدة" عام 1969 ثم "مقالات فلسفية" عام 1989، ثم "من الأيديولوجيا إلى الفلسفة والدين" عام 2002، كذلك "الجمالية والميتافيزيقيا عام 2004، و"العطالة والتجاوز"، ثم "البحث عن جذور الشر" عن وزارة الثقافة، وآخر ما صدر له دون أن يراه كتاب "الاستلاب والحضارة" عن وزارة الثقافة السورية.

يقول صديقه الكاتب والقاص "صالح سميا" في مقال له عن الراحل نشر عقب رحيله في صحيفة "الوحدة" المحلية: «لقد أوغل "أحمد حيدر" إلى أعماق النفس الإنسانية مهتدياً بالتحليل النفسي الفرويدي للوصول إلى مكنوناتها ونزوعاتها؛ واضعاً رؤياه لتخليصها من استلاباتها وبهذا يصبح مفكرنا عالماً نفسياً ينتمي إلى مدرسة التحليل النفسي. وكل هذا من أجل الارتقاء بالإنسان إلى مستوى الحقيقة. فـ"حيدر" كسقراط يرى أن الفلسفة تقوم على أساس أخلاقي، وأن العطالة في دواخلنا مرتبطة بغرائزنا وأهوائنا ونزوعاتنا، تمارس علينا غواياتها كما يقول "حيدر" ونحن نتواطؤ معها بضرب من خداع الذات؛ فالرغبة العطالية موجودة في لا شعورنا "في قبو الشخصية" كما يسميه فيلسوفنا، ولن يتخلص الإنسان من عطالته واستلابه إلا إذا نزل إلى هذا الكهف الملآن بالتناقض واللا معقول؛ واضعاً نصب عينيه الإخلاص للحقيقة، مجاهداً ومناضلاً ضد نفسه الأمارة بالسوء».

بنى الراحل فلسفته بالتنقل بين مذاهب فلسفية عدة لينتهي عند بناء مذهب فكري خاص يتركز حول مفهوم (العطالة ونقيضها)، فكرة العطالة، كانت هي اللب الرئيس لفلسفته، يقول الفيلسوف شارحاً هذه الفكرة: «هي نوع من الجاذبية التي تجذب الإنسان وتمنعه من أن يعبر تعبيراً كاملاً عن ذاته، بمعنى آخر هي قوة سلبية تمنع الإنسان من الانفتاح على الواقع والفهم السليم له، ويميل بعضهم إلى تعريف العطالة بمفهوم طاقي بحت بأنها: البحث عن الطاقة الأقل أو الميل إلى الاقتصاد في الطاقة وبذل الجهد الأقل، ويمكننا القول إن مبدأ العطالة يتجلى في تعبيره الكامل من خلال مبدأ النيرفانا أو البحث عن الدرجة صفر من التوتر، كما يعبر عنها فرويد».

كذلك كانت فكرة الهوية من الأفكار المهمة في طروحاته، يقول الفيلسوف الراحل في حديث سابق معه: «لم آخذ الهوية على أنها مطلق، فكل شعب يصنع هويته ويعيد إنتاجها باستمرار، وهذه الإعادة المستمرة للهوية تكون من خلال اللغة ومن خلال التواصل مع الثقافة، الانفتاح في الهوية هو ما يجب أن نلح عليه، أي أن تستمر الهوية في إعادة إنتاج نفسها باستمرار، ولا بد لها من الحوار الدائم مع الواقع، وبمقدار ما نستطيع أن نتحاور مع الواقع فنحن في طريقنا إلى امتلاك هويتنا».

من أبرز الشهادات التي قيلت في الراحل؛ ما ذكره الفيلسوف السوري "الطيب تيزيني" الذي قال فيه: «"أحمد حيدر" كان رائداً في مسألة أساسية محددة، وهي أنه قدم في شخصه حالة إشكالية للمفكر العربي الذي أخذ يتحرش بكل شيء وفي كل مسألة في مجتمعه، لا يستطيع أن يسكت على ضيم، ويفرح لما ينجز على أيدي الأحرار، وفي إنتاجه قدم زيف وفساد الفكر الاستشراقي الذي يعلن أن الفكر الشرقي عامة والعربي من ضمنه غير معني بإنتاج الإبداع».

توفي الفيلسوف عن عمر يناهز الثمانين عاماً في 30تشرين الثاني 2007، وأقيم له مهرجان تكريمي في ثقافي "عين البيضا" قريته، واستعيدت بعض مؤلفاته عبر طباعتها في وزارة الثقافة، يختم تلميذه الصحفي "حسن سلمان" المقيم حالياً في تونس بالقول: «لم يأخذ حقه إعلامياً كسواه من "نجوم الإعلام" المفكرين الآخرين الذين "يقصفوننا" يومياً بتحليلهم لكل شيء».