يحكى أنّ الفيلسوف السوري الفينيقي "زينون الرواقي"، هبط إلى أثينا، وبقي فيها ردحاً طويلاً، ولأنه "زينون" وليس أي أحد آخر، فقد عرض عليه شيوخ "أثينا" جنسيتها، فرفض قائلاً: "أنا فينيقي، وسأبقى".

عُـرف "زينون" دوماً باسم "الفينيقي"، والده تاجر كنعاني اسمه "منسي"، وتلفظ " أمناسياس" باليونانية، قدم من "سورية الساحلية"[1]، هذه النقطة، يغفلها عمداً أغلب المؤرخين الغربيين لسيرته، التي نقلوها عما كتبه "ديوجين" اللايرسي، في كتابه "تاريخ الفلاسفة الإغريق العظام"، فقد كانت المحلة التي ولد فيها عام 334 ق.م هي "أكيتيوم"، في جزيرة "قبرص"، وهي مستعمرةٌ بناها التجار الفينيقيون القادمين من "أوغاريت" و"صور" و"صيدا"، ومنها في سالف الأيام، نقلوا ثقافتهم وحضارتهم إلى اليونانيين، وعلى رأسها الأبجدية، بعد أن قضى اليونانيون زمناً زاد على خمسة قرون، دون لغة مكتوبة، باعتراف أبرز مؤرخيهم "هيرودوت"، أبو التاريخ القديم كما يلقب.

ما أن غادر المدرسة ذات يوم حتى سقط وكسر إصبعاً، وفي نفس الوقت كان يهتف بكلمات "نيوبي"[2]: "أنا آتٍ، لماذا تنادين علي؟" ثم سرعان ما فارق الحياة

ويعود الفضل في تعلق "زينون" بالفلسفة إلى والده، فقد كان يحضر له من أسفاره كتباً فلسفيةً من أماكن شتّى، وأدى هذا إلى تعلقه بها، ومن ثم هبط إلى اليونان لتعلمها، في سن الثانية والعشرين، في الوقت الذي كان فيه أشهر الفلاسفة اليونانيين يدرّسون المنطق والعقل في مدارس أثينا الناشئة، وبقي "زينون" يتعلم الفلسفة وأصولها، ويعمل في التجارة حتى بلغ الثانية والأربعين فترك التجارة، وبدأ تعليم الفلسفة، في رواق أو شرفةٍ تسمى (Stoa) باليونانية، وتقع في السوق المركزي في مدينة "أثينا"، وذلك بحدود عام 300 ق.م، وتستعمل الكتب الفلسفية العربية اسم "الرواقية"، وكان تدريسه بداية لظهور الفلسفة الرواقية.

تمثال لزينون في قبرص الحالية

يذكر "زكي أمين"، و"زكي نجيب محمود" في كتابهما "قصة الفلسفة اليونانية": «إن "زينون" تتلمذ على يد عدة فلاسفة، هم: "قيراطيس الكلبي، وستلبو الميغاري، وبوليمو الأكاديمي"، إضافة إلى تلمذته لأفكار "أرسطو"، وقد اجتمعت لديه فروع شتى من المذاهب الفلسفية، فدرس فلسفة الكلبيين وطرائق حياتهم العملية، وفلسفة الميغاريين، فتناول تلك الآراء جميعاً، وطبعها بطابعه الخاص، وأخرجها إلى الناس برؤية جديدة، ولا يسع التاريخ إلا أن يحترم تلك الشخصية التي صادفت من قلوب معاصريها كل تقدير واحترام». (ص279 طبعة دار الكتب المصرية، 1935، ط ثانية).

أكثر التفاصيل عن حياة "زينون" كتبها المؤرخ "ديوجين اللايرسي"، وعلى الرغم من أن كتابات "ديوجين" تفتقر إلى العمق الذي تميزت به أفكار "زينون"، فقد ترك لنا سرداً أقرب إلى القصص منه إلى التدقيق التاريخي لأفكار الفيلسوف العظيم، يقول "ديوجين" في كتابه السابق الذكر: «كان "زينون" شاحباً، لوّحته الشمس، وكان يحيا عيشة متقشفة، تتماشى في أسلوب الحياة مع فلسفة الشك التي اتبعها أولاً، ومع أجزاء من فلسفته الرواقية اللاحقة».

سنيكا من أعلام الرواقية

وكان من حوارييه الرواقيين الملازمين له ملك مقدونيا "أنتيجون".

هذا الملك العظيم وجه رسالة إلى "زينون"، دعاه فيها للإقامة عنده ليكون تلميذاً له، فيصبح كل شعبه من تلاميذه نظراً لمبادئه السامية، والأخلاق العالية التي يبشر بها، فكان جواب "زينون" له، وكان قد بلغ من العمر عتياً: "إنني سعيد بكونك تريد تعلم ما هو حقيقي ومفيد، وليس فقط فن قيادة الشعب والعبث بالأخلاق الطيبة، وإن أي إنسان تجذبه الفلسفة ويحتقر الرغبات الدنيوية إنما لا يكون وحسب ذا نبل طبيعي، بل ذا نبل خلقي عظيم، ولو لم أكن كهلاً ويعيقني هرم جسدي لكنت جئت إليك، ولكنني سأرسل إليك بعض تلامذتي الذين يماثلونني بروحهم، وهم أكثر فائدة مني".

مارك أوريل الإمبراطور السوري

لا يُعرف متى مات "زينون"، تقول الروايات عام 263 ق.م، إلا أن "ديوجين" أخبر قصة وفاته كالتالي: «ما أن غادر المدرسة ذات يوم حتى سقط وكسر إصبعاً، وفي نفس الوقت كان يهتف بكلمات "نيوبي"[2]: "أنا آتٍ، لماذا تنادين علي؟" ثم سرعان ما فارق الحياة».

ما يميز الفلسفة الرواقية، وفقاً لما ذكرت الآنسة "شادية سليمان" مدرسة الفلسفة في ثانويات "الحسكة"، في حديث مع مدونة وطن “eSyria” بتاريخ 25 شباط 2014 هو التالي: «اهتم أرسطو وأفلاطون بالتنظير كثيراً، فيما كانت فلسفة الرواقيين ترتكز على أفكار الحياة نفسها، ركزت على الإنسان وسعادته، حياته مع جيرانه، نظرته إلى البشرية ككل كإخوة، وهو ما يقوله "زينون" في عبارة شهيرة له هي: "إن كل البشر إخوة"».

وتضيف الآنسة "سليمان": «أساس الحياة لدى "زينون" وأتباعه الذين طوروا فلسفته، ومنهم "سنكا"، هو "الخلق القويم"، وبالتالي فإن المعرفة أساسٌ أول لها، ولذلك قسم فلسفته إلى ثلاثة أقسام هي: المنطق، والفيزياء، والأخلاق، فالهدف النهائي للبشر هو الوصول إلى السعادة التي لا تتم بغير المعرفة».

تطورت الفلسفة الرواقية بعد رحيل مؤسسها كثيراً، وطور تلاميذ "زينون" أسس هذه الفلسفة كثيراً، حتى سادت العالم الروماني بحدود عام 200 بعد الميلاد، مع اعتناق الإمبراطور الروماني، السوري الأصل "مارك أوريل"، ابن مدينة "منبج"، فلسفة ابن بلده، وجعلها مهمازه، وإضافة إلى تأثير المدرسة السورية القانونية في القانون الروماني (مدرسة "بيروت" ومنها الحقوقي الأشهر "بابنيان")، فقد آمن ذلك الإمبراطور، بأن كل البشر إخوة، مما حدا به إلى منح المواطنيّة الرومانية لجميع رعايا الإمبراطورية الممتدّة من إيطاليا إلى الشرق العربي، إلى بلدان أوروبا الغربيّة، وقبل ذلك لم يكن يتمتع بحقوق تلك المواطنية سوى أبناء روما وحدهم.

يقول الإمبراطور في كتابه الشهير "التأملات": "لست أقدر أن أكون غاضباً مع أخي ولا أن أكون مسيئاً إليه، لأننا خُلقنا لنتعاون مثل يديْ الإنسان ومثل قدميه أو جفنيه أو مثل فكّيْ أسنانه، إن عرقلة أحدهما للآخر هو ضد قانون الطبيعة".

لاتزال للرواقية تأثيراتها في الفلسفة المعاصرة، ويؤكد الفيلسوف البولوني البارز "لوكاسييفِكْشْ Lukasiewicx": "أن الكثير من أفكار المنطق الحديث الرمزي، أصولها موجودة في كتابات الرواقيين الأوائل، أمثال "زينون"، و"سنكا"، وغيرهم، ويذكر أن المنطق الرواقي تميز عن المنطق الأرسطي بأنه كان منطق قضايا (جمل خبرية وشرطية) لا منطق حدود (كلمات)، وأنه وضع قوانين للاستنباط، وفي هذين الفرقين يتشابه مع المنطق الحديث".

دفن "زينون" في "أثينا" بجنازة مهيبة، حضرها مجلس الشيوخ والإمبراطور وكثيرون من الناس، ونصب له عمودان تذكاريان نقشت عليهما عبارة تقول: "أثينا تقدس الأفكار، حتى لو لم يكن صانعوها من أهلها"، كما كتب على قبر "زينون" قوله: "إن كانت فينيقيا هي موطنك، فإن هذا لا يحط من قدرك، ألم يأت "قدموس" من هناك، فأعطى الإغريق الكتب وفن الكتابة؟".

ملاحظات:

[1]- هذا مصطلح جغرافي في أيام الرومان لتمييز المنطقة عن سورية الداخلية، التي تقع وراء الجبال الساحلية، وتشمل كل الساحل من كيليكيا حتى غزة، ولتمييزها أيضاً عن "العربيا"، وهي الجنوب السوري حالياً.

[2]- نيوبي: هي ابنة ملك (فريجيا) في "اليونان"، فقدت أبناءها في صراعات الميثولوجيا اليونانية، وكانت تردد هذه العبارات تنادي بها أبناءها، وردت قصتها في "الإلياذة" لهوميروس، وفي "فن الحب" لأوفيد أيضاً.

المصادر:

1- قصة الفلسفة اليونانية، أحمد أمين، زكي نجيب محمود، طبعة دار الكتب المصرية، 1935، ط ثانية.

2- مارك أوريل، كتاب التأملات، Meditations، الطبعة الإنكليزية، منشورات جامعة كامبريدج، نسخة إلكترونية.

3- روما والعرب، عرفان شهيد، ترجمة قاسم محمد سويدان، دار كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، 2008.