أمنيات وأمنيات، ذكريات وخواطر أخرى سرعان ما تنصب على الدماغ، وجوه بشوشة يملأ الشيب قممها، وأيدٍ متعبة تجلس مستريحة على أبواب المحال هاربة من ظلمة الداخل، كل ذلك تلحظه حين تدخل سوق النجارين بـ "المعرة"، وحين تطأ المكان يئز رأسك صوت المناشر، فتستمر بالمشي دون إحساس بقدميك رغم ما يعترض حذائك من بقايا الخشب، تلحظك عيون نجاري السوق فينظرون دونما اهتمام، لقد ملوا فعلاً الزائرين والسائحين، لكن حين تعلن فضولك، تتهافت القصص والحكايات القديمة عليك من كل صوب...

وتُفتح أمامك الخبايا وزوايا محال السوق العتيقة لتُظهرعراقتها وأصالة صنعتها أمام عينيك، وتلك كانت مختصر حكاية الجولة التي قام بها موقع eIdleb لسوق النجارين القديم في "المعرة"، مروراً في البداية بمحل السيد "مروان" النجار العربي الذي حكى لنا قصته مع المزارع صاحب "الحيلان" القديم قائلاً: «منذ سنوات طويلة كنا نصنع "الحيلانات" وهي عبارة عن أدوات ذوات أقواس نصف دائرية مسننة بمنشار من الأسفل يستعملونها في أيام الحصاد لفصل حبة القمح عن القشرة، وجاءني مزارع من إحدى القرى لصناعة "حيلان" له، وفي أيامنا هذه بعد أن بطل استعمال هذه الأداة، أتى مرة ثانية ليعلن أمام أهل السوق أن "الحيلان" لا يعمل وغير مصنوع بإتقان، فقلت أشتريه منه وأرده إلي بأي ثمن، لأنه أصبح نادراً وأحببت اقتناءه لما يحمل من مكانة، وهنا أعطيته ثمناً جيداً، وحين سمع المزارع ذلك تملكته الحيرة لما فعلت، فتردد وتعجب لما قلته، وقال لا أبيعه بل إنه "حيلان" ممتاز ولا مثيل له أبداً».

المحل الذي أعمل فيه ورثته عن أبي وأتوقع أن عمره /150/ سنة وقد تحول عن مقهى صغير، وفعلاً يوجد بعض المعالم التي تدل على ذلك، حيث كانت صناعة السوق الخشبية تعتمد على الأعواد والعصي وصناعة العربات الخشبية وتسمى "الشراعية" وهي شاهدة حية موجودة في متحف "المعرة"، أما العصي والأعواد فيصنع منها "أعواد الفِلاحة" و "الفأس" و"المقشة" و"المدراية" وهي أداة لحمل التبن والحشائش و"الرفش" و"الشوكة" و "المنجل" و"المكنسة" و"الجاروف" و"النير"، والكثير مما تحتاجه الأرض ومزارعها في عمله، وتقتصر هذه الصناعات اليوم على جزء من السوق وتعتمد في شغلها على أدوات قديمة أيضاً

هنا يصنعون أدوات الزراعة القديمة التي مازالت أجزاءها وبقاياها إلى يومنا عالقة بطبيعة المكان، أما النجار "أحمد بلاني" فتحدث لنا هو الآخر عن محله وعن شكل الصناعة القديم في السوق قائلاً: «المحل الذي أعمل فيه ورثته عن أبي وأتوقع أن عمره /150/ سنة وقد تحول عن مقهى صغير، وفعلاً يوجد بعض المعالم التي تدل على ذلك، حيث كانت صناعة السوق الخشبية تعتمد على الأعواد والعصي وصناعة العربات الخشبية وتسمى "الشراعية" وهي شاهدة حية موجودة في متحف "المعرة"، أما العصي والأعواد فيصنع منها "أعواد الفِلاحة" و "الفأس" و"المقشة" و"المدراية" وهي أداة لحمل التبن والحشائش و"الرفش" و"الشوكة" و "المنجل" و"المكنسة" و"الجاروف" و"النير"، والكثير مما تحتاجه الأرض ومزارعها في عمله، وتقتصر هذه الصناعات اليوم على جزء من السوق وتعتمد في شغلها على أدوات قديمة أيضاً».

مدراية خشبية مع النجار مروان

لا بد ولكل من يلج سوق النجارين أن تحمله قدماه دون أن يدري إلى النجار القديم "محمود جدوع" وهو يعمل في نفس المحل منذ /65/ عاماً والذي بادر بالقول: «مكان هذا المحل كان "معصرة"، وبعد تحويله لمصلحة النجارة حُفرت فيه حفرة عميقة لتسنيد أخشاب وأعمدة بيوت "الغمس" القديمة، حيث كانت أعمدة عمارتها طويلة جداً ويلزم وضعها في حفرة بشكل عمودي حتى يستوعب السقف طولها، ومازلت محافظاً على مهنة صناعة العصي وبعض أدوات الزراعة التي بدأت تنقرض بعد ظهور ألات الزراعة الحديثة، ولا يمكنني ترك هذه المهنة لعدم وجود عمل بديل لدي بعد هذا السن، وغالباً ما نستخدم أخشاب "الحور" و"الصفصاف" وأصناف أخرى جيدة مثل "الزان و"السنديان"، وقبل ظهور آلة "المنشرة" كنا نستخدم "القَدوم" وهو يشبه "الفأس" لتقليم العصي وقص العيدان، ونستخدم أدوات خاصة للي العصي بعد تحريقها».

المكان يحتضن في ذاكرته أيضاً، ضيوف من مختلف الجنسيات وهذا ما استذكره "الجدوع" بالقول: «مر الكثير من السواح وعابري السبيل من هنا، واستضفت في محلي المتواضع العديدين منهم، ولا أنسى تلك المرأة الأجنبية التي أرادت من زوجها إلتقاط صور لي برفقتها وأخذت ما يقارب /10/ صور وقالت أنتم كرماء حقاً، وبعد شهر عادت لتعطيني الصور لكنها لم تجدني وعادت أدراجها، ولا زلت أذكر أن أحد السائحين أتى السوق حاملاً كاميرا تلفزيون كبيرة، وعندما أخذه السوق بسحره نسي الكاميرا داخل محلي وذهب، ولم أعلم ما كنت فاعل في هذه الحالة، لكنه عاد مهرولاً بعد نصف ساعة، وأرشدته أن الكاميرا في مكانها لم يمسها أي سوء، وأبدى إعجابه وبهجته باستغراب مبدياً ذلك بالتقاط الصور لي، وبعد مدة طويلة أرسل مكتوباً على خلفية إحدى الصور، يشرح فيه مكان مدينته ومكان منزله ورقمه في ألمانيا، ويدعوني لزيارته في القريب العاجل».

السيد محمود الجدوع

الزمن وحده لم يصل بعد إلى سوق النجارين بـ "المعرة"، ورغم زوال الأشخاص إلا أن السوق باقٍ، وما زالت أصوات طرق الفؤوس تعلو في الآذان ورائحة الأخشاب والأغصان تفوح في الأنوف، وتملأ جذوع الأشجار المختلفة الجنبات، وتُفرش الأرض ببقايا هذه الجذوع وقشورها المحترقة في ثرى حسي ومعنوي بهيج.

أدوات لي العصي القديمة