هو نجم شعري سطع في دنيا العروبة وأمد القصيدة بروح الشعر ونثره الذي روى ظمأ القارىء العربي، إنه شاعر استثنائي أصيل حاك سجادة الشعر الإنساني بروحه وأعصابه ومشاعره المتأججة.

فأشعل الحرائق وفجّر البراكين في سهول الشعر وجباله وأسال ماء الشعر في وديانه فاجتاحت مياهه بأعاصيرها أشجار اللغة اليابسة وبعث في عروق الجسد الظامىء دماء الحب والحياة.

نزار قباني ملك متوّج على مملكة صنعها وكونها بصبر وإصرار فأراد أن يكون حديث العصر الذي ولد فيه وكان له ما أراد، فهو رجل المعارك الدائمة على كل الجبهات فإذا كنا نعرف نزار الشاعر من خلال أعماله الشعرية التي قرأناها وحفظناها أو من خلال حناجر المطربين الذين شدوا بها ومازلنا نسمع بالجديد منها بين فترة وأخرى.

أما نزار الناثر الذي ومن خلال بعض ما كتب وقال وتحدث وقدم وما نظّر له من آراء وأفكار حول الشعر والحياة من دفاع وهجوم خدمة لقصيدته التي أقضت مضاجع الآخرين.

ولن ندعي الإحاطة بكل ما كتب وكل ما طرح من أفكار وآراء لكنها شذرات لإلقاء الضوء على جانب مهم مما كتب نثراًَ، وهو برأينا لا يقل أهمية عما أبدعه شعراً بل سنرى أن هناك تداخل وتمازج لا انفصال فيه بين نزار الشاعر و نزار الناثر.

فمن هو نزار؟ من خلال ما قال هو عن نفسه وقد قال الكثير الكثير .

نزار قباني من أنت؟

(مكان ولادتي تحت شجرة ياسمين تهرهر أقمارها على بلاط بيت دمشقي قديم واقع في حي الشاغور وحي مأذنة الشحم شهادة الولادة مجموعة من الحمائم والسنونو والقطط الشامية كانت مقيمة على سطح منزلنا في /21/ آذار كانت تأكل وتشرب وتنام وتخطب وتتزوج وتتناسل في كنف العائلة القبانية، لون العينين لون سماء دمشق أيام الصيف، المهنة عاشق، العلامات الفارقة ذبحة قلبية بسبب الشعر، الإقامة الدائمة على غمامة مسافرة بين الخليج والمحيط تخاف أن تقترب من الأرض حتى لا يلقى القبض عليها بتهمة الطفولة، السجل العدلي محكوم عليه غيابيا من المحاكم العربية بتهمة إصدار ثلاثين كتاب في الحب، إنني شاعر قرر بينه وبين نفسه أن يشعل اللغة من أول نقطة حبر حتى آخر نقطة حبر، ويشعل الوطن الممتد من البحر إلى البحر ومن القهر إلى القهر، أردت أن أكتب شعراً يحمل توقيعي وحدي لا توقيع عشرة آلاف شاعر آخر يكتبون بالعربية والفرنسية والإنكليزية والتركية و الأسبانية. أنا شاعر لا يزال يفتش عن الحرف التاسع والعشرين في الأبجدية العربية فالشاعر هو بائع خواتم الدهشة، بائع الذهول والانبهار لا بائع الثياب والجرائد القديمة لذلك يتهم الشعراء دائماً بالعدوانية على التاريخ والتنكر لشجرة العائلة والخروج على النهج القويم والصراط المستقيم.

إنني شاعر تصادمي إذا لم يجد من يتخانق معه يتخانق مع ورق الكتابة حتى حبيبتي إذا حاولت أن تكتم أنفاسي بشعرها الطويل خرجت بمظاهرة احتجاج ضد اللون الأسود، أنا شاعر مزروع كالدم في الزمن العربي أنا أدميه وهو يدميني، أنا أحاول أن أغيّر إيقاعه وهو يحاول تغيير صوتي، أنا أحاول أن أفضحه وهو يحاول استئصال حنجرتي، أنا رجل يصحو وينام ويكتب على ضفاف الجرح العربي المتقيح من سقوط الدولة العباسية حتى اليوم، أنا مؤسس أول جمهورية شعرية أكثرية مواطنيها من النساء، جمهوريتي هذه تختلف عن بقية الجمهوريات في أن الشعر فيها من الممتلكات العامة كالماء والهواء والحدائق وسكان هذه الجمهورية يذهبون إلى الشعر دون كلفة وهم يلبسون القمصان الصيفية والشورتات ويجلسون معه على الأرض. في جمهوريتي لا يشعر الناس أنهم غرباء عن الشعر فقد صار الشعر طبيعتهم الثانية. صاروا هم الشعر .

ترى هل يحتاج هذا الكلام البسيط والعميق في ذات الوقت إلى أي تعليق أعتقد. لا . وأما حول السؤال الدائم لماذا يكتب الشاعر فيقول: أكتب لأنني لم أجد طريقة أفضل للانتحار. أكتب بالحتمية ذاتها التي ترتفع فيها السنبلة ويفيض ماء البحر. أكتب لتصبح مساحة الفرح في العالم أكبر ومساحة الحزن أقل.

أكتب لأغير طقس العالم وأجعل الشمس أكثر حناناً والسماء أكثر زرقةً، والبحر أقل ملوحة أكتب حتى أتزوج العالم، حتى أتكاثر حتى أتعدد، حتى أصبح /150/ مليون نزار قباني هذه هي خارطة طموحي. أما لمن أكتب فلن أكون متواضعا فأقول إنني أكتب لنفسي أو للعائلة. ففي ذهني مخطط للشعر لن أتراجع عنه وهو مخاطبة أي شجرة. أو غيمة. أو سمكة. أو زهرة .. أو نجمة في الوطن العربي.

ومادامت هناك سنبلة قمح تجد صعوبة في فهم الشعر فسأذهب إليها في الحقل وأقرأ لها الشعر قبل أن تنام. ومادام هناك تلميذ واحد في المدارس العربية يخوفونه بالشعر الجاهلي ويعاقبونه لحفظ نماذجه التي لا تعصر ولا تكسر فسأبدد مخاوفه وأمسح دموعه وأجعله صديقي وصديق الشعر. ففي الكتابة أبحث عن شركاء يقتسمون معي بصورةٍ عادلة فرحي وحزني،عقلي وجنوني، صحوي ومطري،حناني وتوحّشي.في الكتابة أبحث عن أطفال العالم، مجانينه وفوضوييه الذين لا يزالون يحتفظون بحدٍّ أدنى من البراءة والنقاء.

أبحث في كتاباتي عن كلِّ النساء المدفونات كأسماك السردين في كتب عاد وثمود والمشنوقات على بوابات المدن العربية وعن الشفاه التي لا تستطيع أن تتكلّم فأتكلّم عنها. وعن العيون التي لا تستطيع أن تبكي فأبكي عنها وعن لغةٍ تكون القاسم المشترك بيني وبين جيلٍ عربي لا أعرفه وعن ملايين العقول التي لم تتشكّل بعد، ولكنهّا سوف تتشكّل بصورةٍ جنينية داخل الشعر وداخل الثورة.

أما عن علاقته باللغة وجدليّتها عنده وكيف يفهمها ويعبّر عنها فيقول: " اللغة تحتلّني احتلالاً كاملاً تحاصرني من كلِّ الجهات حتى أنّ العالم عندي يأخذ شكل النقطة والفاصلة.

الزهرة لغة،النجمة لغة، الشجرة لغة،وجه المرأة لغة،ضحكتها لغة، نهدها لغة، العصافير ..الغابات..دموع الأطفال..وجوه الأطفال كلّها لغات مختلفة أحاول اكتشاف رموزها. عندما تنكسر العلاقة بين القصيدة وبين قارئها، فإن هذا يعني أن فراغاً لغوياً قد حصل.

وعندما تفلس علاقة حب بين رجل وامرأة فهذا يعني أنّ اللغة التي يتكلّمان بها قد انكسرت. إنني أربح امرأة باللغة وأخسرها باللغة، ومن المستحيل علي إقامة علاقة حميمة مع امرأة،لا يلعب الحوار دوراً رئيسياً فيها، اللغة تأخذ حجم عشقنا، فإذا كان عشقنا كبيراً كبرت اللغة وإن كان عشقاً ضيقاً ضاقت اللغة، والعشاق الذين يفكرون بلغتهم أكثر من حبيباتهم يخسرون حبهم وحبيباتهم معاً.

وحول مفهوم نزار قباني عن الشعر وكيف يراه كمبدع وشاعر مميز يقول: " الشعب العربي محكوم بالشعر كما هولندا محكومة بالبحر وأستراليا بالقمح،وكوبا بقصب السكر، وسيلان بالشاي وفرنسا بالنبيذ، وكل أطفال العرب يخططون ليكونوا شعراء.

وإذا كانت القدس تفخر بأنبيائها وقديسيها، ودمشق تفخر بوردها البلدي، والبصرة تفخر بأنها أرض المليون شجرة نخيل، فإن جمهورية موريتانيا العربية تفخر بأنها أرض المليون شاعر.

مليون شاعر؟ هل هذا ممكن ؟ بالنسبة للخيال العربي كلّ شيء ممكن ،ومادام العربي مقتنعاً بأنّ صادراته من الشعر تزيد عن صادراته من القطن والحنطة والنسسيج ،فلماذا نكسر له خياله.

فالشعر موجودٌ في تفاصيل حياتنا اليومية. ففي الأفراح نقدّمه مكان الورد الأبيض والقرنفل،وفي أعياد الميلاد نقدّمه مكان قالب الحلوى، وفي الأعراس نطرّزه بالقصب على أكمام العروس، وفي الولادات نجعله قلادة ذهبية في رقبة الطفل

وفي المعابد نجعله بخوراً لاسترضاء الله، وفي المسيرات نفجّره قنبلة لإسقاط الحكم

وعندما نعشق نجعله أسوراً من الزمرّد في معصم الحبيبة أمام هذا الاحتلال الشعري الذي استمرّ ألفي سنة، والذي قبلناه راضين سعداء وشاكرين. لايملك المرء إلا أن يتساءل إذا كان هذا الاحتلال الشعري الجميل قد أغنى حياتنا وجمالها وعمقها ،أم أنه ككلّ احتلالٍ تقليدي سرق منا الشمس وأعطانا كرةً من الزجاج الملوّن نلعب بها في أوقات فراغنا.

هل استهلك الشعر من أعمارنا أكثر مما يجب؟ وهل بالغ العرب في عبادة الشعر حتى صار في حياتهم وثناً ككلّ الأوثان؟

فالسؤال الجوهري ماهو الشعر بعد كلّ هذا التاريخ الطويل؟ ليس للشعر صورة فوتوغرافيةً معروفة وليس له عمرٌ معروف، أو أصلٌ معروف، ولا أحد يعرف من أين أتى وبأيّ جواز سفرٍ يتنقّل.

المعمّرون يقولون أنّه هبط من مغارةٍ في رأس الجبل واشترى خبزاً وقهوة وكتباً وجرائد من المدينة ثمّ اختفى، وسكان الشواطئ يقولون أنّه خرج من أعماق البحر وأنّه لعب طوال النهار مع الأطفال والأمواج ثمّ عاد إلى بيته البحري

ونساء المدينة يقلن أنّه دخل عليهنّ كعصفور ربيعي فنقر على شفاههن وعربش على ضفائرهنّ وترك ريشه على شراشفهن وهزّ جناحيه وطار، ومعلّمو المدارس يقولون أنّه دخل على صفوفهم ذات صباح فتكلّم مع التلاميذ لغةً لم يتعلّموها وكتب على السبورة السوداء حروفاً لم يروها من قبل، ففهموا ما قاله لهم فليت هنالك نظرية للشعر، وكلّ شاعر يحمل نظريّته معه، فالشعر هو أنا وأنتم، فما أسهل كتابة الشعر وما أصعب الكلام عنه، الشعر هو الرقص، والكلام عنه هو علم مراقبة الخطوات، الشعر رقصٌ باللغة، رقصٌ بكلّ أجزاء النفس، وبكلّ خلجاتها الواعية واللاواعية، ليس عندي أيّ تفسيرٍ مقبول لذلك الزلزال الذي يركض تحت سطح جلدي، من أين يجيء وإلى أين يذهب وكما لا يمكن توقيت الزلزال،لا يمكن توقيت الشعر.

طبعاً كان بإمكاني منذ البداية أن أرشوكم بتعريف فصيح ولامع، مشغول كصينية فضة، لكنني في الواقع استحيت منكم ومن الشعر، لأنّ الكذب في الشعر حرام. كان بإمكاني أن أدخل المختبر وأؤلّف لكم عشرات النماذج المدرسية لتعريف الشعر:

1- الشعر هو هذه اللغة ذات التوتّر العالي التي تلغي كلّ لغة سابقة وتعيد صياغتها من جديد.

2- الشعر هو الكلام المجنون الذي يختصر كلّ العقل والفوضى التي تختصر كلّ النظام.

3- الشعر هو ذلك الانقلاب الحضاري الناجح الذي تقوم به البشرية ضدّ نفسها دون عنف.

4- الشعر هو ذلك الفن الخارج على القانون ويعكس قمة العدالة.

5- الشعر هو الجنون الوحيد إلي لا تستطيع الحكومة أن تأخذك بسببه إلى مستشفى الأمراض العقلية .

6- الشعر هو مجموعة الأسئلة التي لا أجوبة لها.

ماهو الشعر؟لا أعرف..لا أعرف..لا أعرف

فإذا كان الشعر وتعريفه، ماقاله ومالم يقله فما هي القصيدة عند نزار؟

القصيدة طعنةٌ جميلة ينبت على ضفافها القمح وشقائق النعمان. طعنةٌ تختلف عن كلّ الطعنات في أنّ لونها أخضر، طعنةٌ ينزف منها الإثنان الطاعن والمطعون، الشاعر والمتلقّي، القصيدة عملٌ تحريضي من الطراز الأول وليس كرسياً هزازاً يساعد على الارتخاء ويجلب النعاس.

القصيدة ليست مضيفة طيران لتأمين راحتكم، إنّها على العكس محاولة لإقلاق راحتكم، بل هي قطار المصادفات الذي لا يعرف أحد ميعاد مغادرته، ولا يعرف أحدٌ ميعاد وصوله. إنّ القصيدة الجيدة لا يمكنها أن تكون في الماء والنار والصيف والشتاء، في القطب الشمالي وعلى خط الاستواء في وقتٍ واحد، إنّ مبدأ عدم الانحياز في السياسة لايمكن تطبيقه على الشعر،إنني لا أتصوّر شعراً يقيم في المنطقة الوسطى بين الأشياء ،أي في المنطقة المعزولة من السلاح، حيث لا محاربين ولا أسلحة ولا انتصارات ولا هزائم ،نحن بحاجة إلى شعرٍ ينهي وصاية رأس المال على الكلمة،وبحاجة إلى شاعر لا ينحني في حضرة الخليفة ، وإنما ينحني الخليفة في حضرة شعره.

نزار قباني أشهر شاعر عربي جمهوريته امتدّت من مغرب الوطن إلى مشارقه،جمهورها نساءٌ وشباب ،عوالمها ثرية غنية ،إنه صاحب مشروع المدينة الشاعرة مقابل المدينة الفاضلة وبين الجمهوريتين علاقةٌ خفية مغزولة من شغاف القلب فالشعر فضيلة ،والفضيلة شعور وموقف.

نزار قباني شاعر الحبّ تارة، وشاعر المرأة تارةٌ أخرى كما يقول البعض، وهو الشاعر الصعب على التصنيف كما يقول البعض الآخر، ودون شك ما من شاعر عربي معاصر شغل النقّاد كما شغلهم نزار حلّلوه جسدياً ونفسياً، تابعوا تاريخ حياته يوماً بيوم. ونزار لم يترك النقاد يشرحونه ويكتبون سيرته،فكتب سيرته هو فكان كتابه قصتي مع الشعر وله مساهمات أخرى كثيرة في مجال إضاءة الشعر ،فهنا كتابان هامّان هما:

عن الشعر والجنس والثورة،والمرأة في شعري وحياتي، وباختصار ليس هناك من مزيد، مالم يقله النقاد قاله نزار قباني، نشر ديوانه الأول(قالت لي السمراء) في أيلول سنة /1944/ م. كتب مقدّمة الطبعة الأولى الدكتور منير العجلاني، ومما كتبه في هذه المقدمة:

"لا تقرأ هذا الديوان فما كتب ليقرأ ...لكنّه كتب ليغنى....وليشم ويضم"

ولعل أخطر شهادة قيلت في لغة نزار الشعرية ما قاله الأستاذ سعيد الأفغاني:

((لو سقطت ورقة من نزار قباني في الأتوبيس وعليها كتابة موقعة منه،لحملها أول راكب يلتقطها إلى منزله))وقيمة هذه الشهادة تنبع من كونها صادرة عن أستاذ في فقه اللغة العربية بجامعة دمشق ،عرف بكلاسيكيته المتطرفة وتعصّبه للقديم ورفضه للجديد والمجدّدين ولأنّ هذا الرجل لا يحب شعري ولا يستريح له ،أعتزّ بما قاله عني ،وأعتبر هذه الوثيقة شهادة الشهادات .كما يعترف نزار قباني لهاني الخير.

ونحن نقول بعد هذا العرض الموجز والمقدّم من خلال ما كتبه، وما صرّح به، وما عاشه، وما قدّمه.

إن نزار قبانيي شاعر في نثره، وشاعر وشيطان وملاك في شعره، عجن اللغة وخمرها بخميرة روحه الفريدة، وخبزها في تنوره مشاعره وأحاسيسه ،وقدّمها لنا خبزاً مقمَّراً شهياً مرة يرشّ عليها الزيت والنعناع ، ومرة أخرى الزعتر، ومراتٍ كثيرة الفليفلة الحارة التي جرحت حلوقنا، وأسالت دموعنا دون أن نشرب بعدها جرعة ماءٍ باردة.

وبعد ترى هل أطلنا في الاستشهاد واستطردنا في الحديث عن الرؤية الشعرية والفنية والإبداعية التي انطلق منها شاعرنا.

من خلال كتابه "ما هو الشعر" والذي استندنا إليه في معظم هذه الورقة بقي أن نشير إلى أنّ للشاعر مسرحية وحيدة بعنوان"جنونستان" كتبها عام /1977/ م ونشرها عام /1988/ م عن الحرب الللبنانية، برؤية فيها شيء من السوريالية تتناسب وسوريالية الحرب بكلّ مفارقاتها.