في مكتبته الصغيرة في شارع الكورنيش التقيت به، حيث الكراسات، وصور الزينة، وأشياء خاصة بالأطفال كالألعاب، والهدايا تحيط به من كل اتجاه.

إنه الباحث، والمدرس، والشاعر عبد الوهاب البر، من مواليد معرة النعمان 1946م والحائز على إجازة في اللغة العربية من جامعة بيروت.

درّس اللغة العربية في ثانوية معرة النعمان زمناً طويلاً، ليشغل بعدها مديراً مساعداً للتربية في محافظة إدلب لمدة تسع سنوات خلت.

له العديد من المقالات النقدية، والأبحاث التاريخية، إضافة لديوان شعر ومسرحية عن المعري.

*لقد ذكرت أنك أنهيت منذ فترة كتابة مسرحيتك عن المعري فمن أي الجوانب تناولته في هذه المسرحية؟

ـ حاولت أن أتناول (حصار المعرة من قبل صالح بن مرداس عام 418 للهجرة)، وفي هذه المسرحية جوانب مغايرة لما هو مألوف عند المؤرخين الذين أجمعوا على أن المعري خرج إلى صالح يستجديه، للصفح عن المعرة، وأهلها، بينما الحقيقة في رأيي مخالفة تماماً، فالمعري يمتلك أدوات القوة، والمواجهة فهو شاعر ذائع الصيت، ولا يخفى ما للمعري من سمعة أدبية واسعة، حتى صار كأنه وسيلة إعلامية قادرة على التأثير والتغيير.

المعري خرج من حبسه الذي فرضه على نفسه، لمواجهة الطاغية، وهو على ثقة كبيرة بقدرته على تغير موقف خصمه، وهذا ما حاولت إظهاره في المسرحية.

  • يقول بدوي الجبل مخاطباً المعري:
  • يا ظالم التفاح في وجناتها

    لو ذقت بعض شمائل التفاح

    هذا الخطاب، مشابه في مضمونه لآراء الكثيرين من النقاد، ودارسي الأدب الذين وجدوا الحيادية، وإن صح التعبير السلبية في مواقف المعري تجاه المرأة.

    في البحث الذي قدّمتَه في مهرجان المعري خالفتهم جميعاً ما دليلك على ذلك؟.

    ـ أنا خالفتهم لأنَّ المعري كان عاشقاً مغرماً برأيي، نعم، ويمنعه حياؤه من التصريح المباشر بذلك، ربما كان العمى والجدري سببان محجمان جعلاه يقنع بموقف العاشق المغيب نفسه عنوة عن معشوقته.

    لقد كانت المرأة إحدى التجارب القاسية، التي تركت فجوة مؤلمة في قلبه، وأثراً حزيناً على مسيرة حياته كلها.

    فلو رجعنا لما قاله عن المرأة في مرحلة الشباب ومقتبل العمر، لوقفنا على مخزون خصب ندرك من خلاله ما كان للمرأة من مساحة رحبة في قلبه، ومعان مقدسة في عقله، تخبر عن طبيعة سوية متوازنة، تؤكد حاجة النفس للنفس، والشوق العارم للجنس الآخر.

    يقول المعري في القصيدة السابعة والأربعين من سقط الزند:

    أيا جارة البيت الممنع جاره

    غدوت ومالي عندكم بمقيل

    (يتابع البر قائلاً): لقد آلم المعري بعدها عنه، وتحصنها في بيت منيع، ناعمة البال لا يجد إلى قربها أي بارقة أمل، ومنها هذا البيت البديع، وما يحمله من المعاني الحسية والنفسية في إطار يتقطّر لوعة وصبابة:

    لغيري زكاة من جمال فإن تكن

    زكاة جمال فاذكري ابن سبيل

    ابن السبيل بأمس الحاجة إلى المال الذي يوصله إلى أهله، والمعري بأمس الحاجة إلى الجمال الذي يطفىء عطش نفسه، وقلبه، وهذه المقابلة الناعمة اللطيفة يقول عنها البطليوسي: (لا نظير لها في الشعر العربي)، حيث يتابع المعري في نفس القصيدة:

    وأرسلت طيفاً خان لما بعثته

    فلا تثقي من بعده برسول

    فحتى طيف الحبيبة وإن زاره في الحلم، لايحظى منه بما يأمل بل يزور عنه، ويخونه مع أنه يحمل إليها صفاء الود والتواصل.

    وهي شمس غديّة لأنها قريبة العهد بالصبا، وشمس أصيل عندما تحين ساعة الفراق يقول المعري:

    وكنت لأجل السن شمس غدّية

    ولكنها للبين شمس أصيل

    وأيضا للمعري أبيات في الغزل يعبر فيها عن لوعته وحرمانه، يعرضها في ثوب من الحزن، ينضح رقة ورهافة:

    منك الصدود ومني بالصدود رضى

    من ذا عليّ بهذا في هواك قضى

    بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت

    مـن الكآبة أو بالبرق مـا ومضا

    لقد كان المعري في شبابه نزوعاً إلى المرأة ميالاً إليها كجميع الشعراء فكانت ملهمة له، حركت فيه لواعج الهوى، وهزّه الوجد إليها.

    *كأني بك تحاول إلباس المعري لبوس العاشق المتلهف لمن يحب، وكلُّ ما يعرف عن المعري يخالف ذلك؟

    ـ لأنَّ دارسي المعري، اكتفوا بالقشور، فظنوا أنهم أصابوا الحقيقة، وكثيرون منهم، بل معظمهم تجاهلوا قول المعري في القصيدة الثانية والخمسين من السقط:

    ولقد ذكرتك يا أمامة بعدما

    نزل الدليل إلى التراب يسوفه

    والعيس تعلن بالحنين إليكم

    ولغامها كالبرس طـار نـديفه

    ويقول المعري أيضاً في القصيدة الخامسة والخمسين من السقط:

    كأن الغمـــام لها عاشـــــق

    يساير هودجها أين ســارا

    وبالأرض من حبها صفرة

    فما تنبت الأرض إلا بهارا.

    وتجاهلوا أيضاً قوله:

    ياظبية علقتني في تصيدها

    أشراكها وهي لم تعلق بأشراكي

    رعيت قلبي وما راعيت حرمته

    فلم رعيت وما راعيت مرعاك

    مابال داعي غرامي حين يأمرني

    بأن أكابد حرّ الوجد ينهاك

    هذه المعاني الرقيقة الناعمة أيمكن لها أن تصدر إلا عن نفس متعطشة للمرأة ميالة لها؟

    يسوي عبد الوهاب البر جلسته ليتابع القول: لكنه لم يعثر على القلب الحاني، أو الصدر الدافيء الذي يعيد إليه توازنه، ويخفف عنه قسوة الحياة، وصقيع الوحدة.