خمسة أمتار فقط قطعتها أقدامي باتجاه الصوت"تفضلي" المنبعث من إحدى غرف منزل أم محمد، الكائن في مدينة أرمناز والذي لا يعلو عن سطح الأرض سوى أمتار لا تتجاوز الثلاثة، في تلك الغرفة، التي هي جزء من بيت عربيٍ قديم، اتكأت أم محمد إلى أحد جدرانها.

كانت تجلس، وإلى جانبها ابنها إبراهيم، استقبلتني كعادتها " أهلا وسهلا بهل شقرا " وعندما طلبت منها صورةً تذكاريةً تلعثمت ورفضت بادئ الأمر" يه يا بنتي أنا بعد هالعمر بدي صور"؟

وكعادته يمرُّ الوقت في حضرتها دون الشعور به فحديثها الشيّق، وكلماتها الرقيقة العذبة جعلت منها جليسة لا يملّ الجلوس معها.

بدأت الحديث عن زوجها: "الله يرحم عمك أبو محمد والله كان رجال قبضاي" تصمت قليلاً، وكأنها تسترجع شريطاً سينمائياً سجلت فيه ذكرياتها مع زوجها أبو محمد، ثم تتابع حديثها لتخبرني بأنها منذ أن تزوجت سنة /1959/م وهي تكافح لتربية أبنائها بعد أن توفي زوجها تاركاً سبعة أولاد إضافة لإبراهيم الذي يتوسط إخوته، والمريض بداء الصرع الذي يرافقه حتى اللحظة، رأيتها تعامله كطفلٍ مدللٍ، وتأتي له بكل ما يطلب تضحك معه وتقلد كلامه، بعد أن سحبته من يده لتساعده على الجلوس، ولا مجال للمقارنة بين حجمها وحجمه جلست متعبةً "إيه يا بنتي الدنيا بدها صبر" حدثتني عن أرضها التي تعنى فيها: ((ما في أطيب من لقمة الحلال...)) وكذلك سردت لي كيف كانت تعمل فيما مضى بتنجيد الألحفة: "منذ طفولتي كنت أبصر أمي تنجد الألحفة بطريقة مميزة جميلة تصنع منها لوحات فنية ينبهر بها كل من يراها في بيتنا، لكني لم أتوقع أن تكون مهنة التنجيد سبيلي للتغلب على آلام الفقر والجوع التي عانيتها وأسرتي بعد وفاة أبو محمد" تصمت قليلاً، وما تلبث أن تتابع بمزيد من الحماسة والفخر:" البداية كانت ببساطة في سوق الجمعة لا تتعدى اللحافات الخمسة حسب نشاطي في العمل، كنت كل أسبوع أفترش جانبا من السوق أعرض بضاعتي على الزبائن، و لم يكن يشتري مني أحد في البداية لكني لم أيأس، وعدت إلى السوق في المرة الثانية، وتضيف :"الحمد لله حالفني الحظ وبعت بعض إنتاجي، وكم كانت فرحتي، حينها، شعرت أني أعانق السماء وزادت فرحتي عندما رأيت الابتسامة تشق ملامح أطفالي حينما عدت لهم باحتياجات طال انتظارهم لها، عندها صممت على متابعة العمل بمزيد من الجد والاجتهاد لتأمين احتياجات أسرتي وإبصار ملامح السعادة في عيونهم على الدوام "

والحمد لله ربيتهم على العز "وما احتاجوا حدا" وهم الآن في أحسن حال والحمد لله صحيح بعيدون للعمل لكن كما يقول المثل: " مطرح ما ترزق إلزق"، ويبدو أيضاً أن المثل يصح بأنه حيثما ترتاح إلزق فربما لذلك أطلت الجلوس مع أم محمد التي تستقبل ضيوفها بحرارة، وتودعهم بالأشواق.