لأني أعرف الباحث "فايز قوصرة" منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وأعرف ولعه بالوثائق النادرة عن "إدلب"، فهو على استعداد لأن يسافر إلى أي مكان في العالم من أجل الحصول على وثيقة تعزز بحثه إن كانت مادية أو شفهية، ويطابقها مع الوثائق المكتوبة، ليصل إلى الحقيقة التي يبحث عنها في تلك الوثائق، ولأنّه دائماً يحمل لك الجديد والمفاجئ في هذا المجال، كان هذا الحوار مع هذا المؤرخ بعد عودته من ندوة شارك فيها في تركيا مع مجموعة من الباحثين السوريين من "معهد التراث العلمي" في "جامعة حلب".
الشيخ اسحق ابن حاج ناصر المشهور "بالجعيوزي" من أهالي قرية "إذلب الكبرى" التابعة لقضاء إدلب الصغرى، وآل جبارة...إلخ
** من أهم الوثائق النادرة التي حصلت عليها هي المتعلقة بإدلب الكبرى والصغرى والموجودة في "مركز الدراسات التاريخية" في "دمشق"، لأنّ إدلب لم تكن معروفة توثيقياً، حيث إن "إدلب" الكبرى كانت على طريق "معرة مصرين"، و"إدلب" الصغرى هي الحالية، وقد أظهرت هذه الوثائق الكثير من تاريخ هاتين القريتين، ومعظم هذه الوثائق لم أنشرها بعد وهي ليست عن "إدلب" فقط بل أيضا عن معظم قرى ومدن المحافظة، وخاصة فيما يتعلق بمناطق "حارم، سلقين، جسر الشغور، معرة النعمان" كما لدي وثائق خاصة عن "إدلب وسرمين" إلا أنني نشرت بعض هذه الوثائق في كتابي "من إبلا إلى إدلب" وكتابي الأخير "ولاية الفوعة"، وهو عن قرية "الفوعة" حصراً، وآمل أن أنجز كتابي المهم "إدلب البلدة المنسية"، ومن المتوقع أن يتم إنجازه خلال العام 2010.
** بالنسبة لي ولكل باحث أعتبر أنّ الوثيقة المكتوبة هي الأصل والوثيقة الشفهية رديفاً وداعما لها في حال تطابق الروايتين أو اقتراب الثانية من الحقيقة بالنسبة للمعلومات الموجودة في الأولى فمثلاً في الثمانينيات التقيت الحاج "محمد خير عبد اللي" وبعد حوارات مطوّلة معه زودني من خلالها بالكثير من المعلومات المتعلقة بتاريخ "إدلب" حيث إنّه يتمتع بذاكرة قوية إضافة إلى اهتمامه بتراث البلد، وفي البداية كنت أشك برواياته من منطلق الوصول إلى الحقيقة، ولكن بعد اطلاعي على الوثائق التاريخية عن "إدلب" تبيّن لي صحة أقواله، وقد سألته: «إن معظم معلوماتك صحيحة، ما مصدرك؟» فأجابني أنّه اطلع على مخطوط عن تاريخ "إدلب" مؤلف من أربعين صفحة وجده عند جاره الشيخ "عبد الرحمن ربوع"، وأنّ هذا المخطوط قد أخذه أحد المشايخ معه إلى "دير الزور" وبقي هناك، وقد حفظت المعلومات التي أعطيتك إياها من هذا المخطوط الذي قرأته.
وإحدى المعلومات التي زودني بها حول الجامع الكبير في "إدلب" أنّه من العصر المملوكي وجدد في العهد العثماني بعد الزلزال عام 1822 وكان هناك قبر لراهب مسيحي في باحته الشمالية، والدليل أنّه إلى الشرق من الجامع كانت هناك مقبرة مسيحية».
بالإضافة إلى حديثه عن العائلات التي كانت تسكن في "إدلب" والحركة السكانية فيها أي من الكبرى الشمالية إلى الصغرى الحالية وذلك بسبب التطور الصناعي، حيث كانت صناعة الصابون موجودة، ولاسيما أنّ الصدر الأعظم "محمد باشا الكوبرلي" قد أعفى "إدلب" الصغرى من الرسوم والأعشار أي الضرائب، لذلك ازدهرت المدينة ونمت عمرانيا، وسكانيا بسرعة فائقة في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وتحوّلت إداريا من قرية "إدلب" التابعة لقضاء "سرمين" في ولاية حلب إلى قضاء إدلب الصغرى، ومع مطلع القرن التاسع عشر بدأ يرد في الوثائق ذكر "إدلب" فقط دون الصغرى واندثرت "إدلب الكبرى" بسبب تحول سكانها إلى الصغرى.
** من العائلات التي ما زالت موجودة في إدلب عائلات "جحا، والعياشي"، وأفادني الحاج "محمد خير عبد اللي" أن أقدم عائلة سكنت في "إدلب الكبرى" عائلة "مرجان"، ولكن بعد اطلاعي على الوثائق تبيّن لي أن هناك عائلات أخرى سكنت في "إدلب الكبرى" مثل: "الكيالي"، و"مرجانة" وهي عائلة مسيحية».
ثمّ أطلعني الباحث "قوصرة" على وثيقة مذكور فيها اسم إحدى العائلات التي مازالت تقطن في "إدلب" وقد ورد اسمها في الوثيقة "إذلب" بإضافة نقطة فوق حرف الدال، جاء فيها ما يلي: «الشيخ اسحق ابن حاج ناصر المشهور "بالجعيوزي" من أهالي قرية "إذلب الكبرى" التابعة لقضاء إدلب الصغرى، وآل جبارة...إلخ».
** المؤتمر كان عن التراث في "إنطاكية وقونية"، وشاركت فيه ببحث حمل عنوان "إنطاكية في العهد المملوكي" ووزع في المؤتمر كتاب الحكيم "داوود الإنطاكي"المولود في بلدة "الفوعة"، والتي تقع شمال شرق "إدلب" بحدود عشرة كيلومترات، وحاليا هناك كتاب يترجم إلى اللغة التركية بعنوان "دفنة" الحربيات في التاريخ من إعدادي أنا والسيد "محمد قره صو" رئيس نقابة الكتّاب في إنطاكية ولاسيما أن الموقع هام جدا ويقع جنوب "إنطاكية" حيث اجتمع في هذا المكان الزعيم "إبراهيم هنانو" والشيخ "صالح العلي" و"شكري القوتلي" في العام 1928 أي قبل أن يصبح رئيسا بوقت طويل، وكان الهدف من هذا اللقاء التخطيط في كيفية إعادة الثورة ضد الاستعمار الفرنسي مرة ثانية، وستنشر صورة عن هذا اللقاء في الكتاب المذكور، وقد ورد في وثيقة الوقف في إنطاكية بوجود زاوية باسم "محمد الفوعي" وتعود الوثيقة إلى عام 1369 وهذا دليل على التواصل بين البلدين "إدلب" و"إنطاكية"، وقد ورد في تلك الوثيقة معلومات جديدة عن أبواب "إنطاكية"وسورها العظيم أحد عجائب الدنيا، بالإضافة إلى المساجد والزوايا والكنائس، وقد ألقيت الضوء لأول مرة على تاريخ إنطاكية في العهد المملوكي حيث الوثائق نادرة جدا لكونها في هذا العهد كانت إمارة إفرنجية إلى أن حررها الملك "الظاهر بيبرس"مع غيرها من مدن المحافظة كإدلب و"سرمين" و"أريحا" عام 1266 م وتذكر الوثائق التاريخية أنّه يوجد ثلاثة أبواب في مدينة إنطاكية وهي "باب بولص" الذي يؤدي إلى "باب الهوى" ثمّ "باب الجسر" الذي يؤدي إلى غرب إنطاكية و"باب الجنان" أمّا الوثيقة التي قدمتها حول الباب الرئيس، ولم يذكر سابقا لدى المؤرخين وهو "باب القصر" وقد اعتمدت على وثائق الرحالة الذين زاروا "إنطاكية" مثل: "نيبور" الفرنسي و"بوكوك" و"بارتليت" الانكليزيان، وبينت في الوثيقة أنّ العمارة الإسلامية قد بنيت بعد خروج الفرنجة في الحي الجنوبي الشرقي، أي حول مزار ومقام "حبيب النجار"، أمّا العمارة الرومانية فقد كانت في الحي الشمالي والغربي أي من باب "بولص" إلى باب "القصر" وباب "الجسر".
أخيراً أثارني المؤرخ "فايز قوصرة" بفكرة مازالت تلحّ عليه ومفادها «الأدالبة بانتظار معرفة تاريخ بلدهم المجهول».