«إنّه الإنسان الذي لاتملّ ذاكرة الناس في أرجاء منطقة "معرة النعمان" عن استحضار قصص إنسانيته، فهو الطبيب الذي قدّم الكثير والكثير للفقراء والمحتاجين، وهو الرجل التقدمي السابق لعصره».

الكلام للسيد "راسم الحراكي" ابن الطبيب "أحمد راتب الحراكي" حين التقاه موقع eIdleb للحديث عن شخصيّة بارزة عرفتها مدينة "المعرة" في العصر الحديث وليست "المعرة" وحدها فقط بل العديد من المدن السورية.

أحياناً كان يزعج والدي الاحتكاك المباشر بالناس العاديين، ففي عيادته لم يكن يعتمد على ممرض أو مسير لشؤون المرضى خارج الغرفة الرئيسية، وهذا ما جعله وجهاً لوجه مع المرضى، ويحوّله ذلك غالباً إلى شخص من النوع العصبي، وهو ما يسمّيه الناس "النرفزة"، فهو يغضب لفترة قصيرة ويهدأ، وخلال فترة الغضب هذه قد يفعل ما لا يحمد عقباه، ومثال ذلك أذكر أن أحدهم اتصل ليقول له: "دكتور إنت هون بالعيادة" فأجابه والدي بنرفزة: "لأ يا حبيبي مو هون"، وأغلق بوجهه السماعة

هو من مواليد "المعرة" عام 1920، درس الإبتدائية في مدرسة "السلطانية" في "معرة النعمان"، وبعد حصوله على الشهادة الثانوية في "حمص" توجّه إلى "دمشق" لدراسة الطب، وتخرج سنة 1946في أول دفعة بعد الاستقلال، ليعمل طبيباً في "المعرة" لمدة تزيد عن أربعين عاماً.

راسم الحراكي وفهد الحراكي

يقول السيد "راسم": «أذكر أنّه في بداية ممارسة والدي لمهنة الطب لم يكن يعاصره في العمل أحد من أبناء البلدة، وكان يستخدم أدوات بسيطة ويركّب عقاقير من صنع يديه، وعندما انتقلت عام 1977للدراسة في "حلب"، رفض والدي فكرة ترك "المعرة" ونقل عيادته، وحين عُرض عليه السفر في بعثة دراسية على حساب الدولة رفضها رفضاً قاطعاً، لذلك استمر في العمل بمدينته، وهناك تسمية أطلقت عليه وهي "أبو الدراويش"، فكثيراً ما ترك محاسبة المرضى لله، وهذا التصرف جعله أحياناً عرضة للطمع من أصحاب النفوس الضعيفة، فكانوا يخفون المال في جواربهم وأماكن أخرى حتى يتظاهروا بالفقر، ومع ذلك فكان يقتنع منهم بأجرة قليلة، مع أنه لم يكن يتهاون مع المحتالين ولم يكن يساوم الناس أبداً على الرغم من مساومتهم له على الأجر، وكأنهم يساومون أي بائع خضار.

ورغم حاجته للمال إلا أنه رفض الحصول عليه من رقاب الفقراء، فمهنة الطب هي أكثر المهن إنسانية من وجهة نظره، وبالنسبة للحديث عن قضية براعته فهو طبيب بارع، فكثيراً ما كان يردد أن سمّاعته تكشف أكثر من أجهزة التصوير الحديثة، وليس ذلك وحسب، بل يستطيع أيضاً بدقة حدسه وملاحظته لوجه المريض معرفة احتمال المرض لديه من عدمه، وخلال تلك الفترة كان أصحاب الأمراض المستعصية يجوبون البلاد حتى يجدوا التشخيص المناسب لمرضهم، وعندما يذهبون إلى لبنان كونه متقدماً من الناحية الطبية يقلّب الأطباء وصفات الأطباء التي مرّ عليها المريض وحين تقع وصفة والدي الطبية بين يديهم يتعجّبون متسائلين كيف أن لديكم طبيب مثل "أحمد راتب" وتأتون إلينا».

نسخة قديمة من شعر الدكتور راتب

  • "راتب الحراكي" اجتماعي مثير للجدل
  • يضيف السيد "راسم" عن والده: «أحياناً كان يزعج والدي الاحتكاك المباشر بالناس العاديين، ففي عيادته لم يكن يعتمد على ممرض أو مسير لشؤون المرضى خارج الغرفة الرئيسية، وهذا ما جعله وجهاً لوجه مع المرضى، ويحوّله ذلك غالباً إلى شخص من النوع العصبي، وهو ما يسمّيه الناس "النرفزة"، فهو يغضب لفترة قصيرة ويهدأ، وخلال فترة الغضب هذه قد يفعل ما لا يحمد عقباه، ومثال ذلك أذكر أن أحدهم اتصل ليقول له: "دكتور إنت هون بالعيادة" فأجابه والدي بنرفزة: "لأ يا حبيبي مو هون"، وأغلق بوجهه السماعة»، وأضاف "راسم": «معظم ما تسمعه عن الدكتور من المواقف التي يتداولها الناس في سبيل الضحك هو زيادة قليلاً عن الحقيقة فهناك من الحكايات مما هي مؤلّفة بعدّة سيناريوهات، فحين يخرج من المنزل للسفر أو الترويح عن النفس في المقاهي كان يوصّي من حوله بعدم سؤاله عن أي شيء خاصة فيما يتعلق بالطب أو السياسة، رغم أن مجالسيه في مقهى "رشاد" الشعبي الذي كان يرتاده في "المعرّة" ينتظرون منه بيت شعر أو موقف مسلّي مما عُرف عنه بين الناس، حيث يعتبره الكثيرون منهلاً فكرياً وسياسياً فيحاولون الإستفادة منه حين لقائه، وأعتبر من وجهة نظري أن طقس "أحمد راتب" المثالي كان بين مثّقفي "حلب" أو "دمشق"، وترجم ذلك الطقس عملياً بارتياده لمقهى "الهافانا" في "دمشق" و"القصر" في "حلب"».

    الدكتور راتب في خريف العمر

    و عن "أحمد راتب" الشاعر تحدّث الأستاذ "حازم الحراكي" وهو صديق قديم ومقرّب للطبيب حيث قال: «ذائقة الشعر عنده بدأت بطلقة وانتهت بطلقة أي أنها من تاريخ النكسة عام 1967 إلى تاريخ اجتياح لبنان عام 1982، وكان يكتب بأسلوبي العمودي، والتفعيلة، ويستخدم ذلك الشعر في المناسبات العائلية والمواقف الشخصية والحديث عن الأشخاص مؤلفاً أبياتاً طويلة في الرثاء والغزل والوصف، أو الذم والمدح، وأبرز مجموعات شعره هي: ديوان "معاناة"، وفي قصيدة ضياع برز لديه اتجاه فلسفي شعري مقلّداً اتجاه "أبي العلاء"، فوجه التلاقي لدى الدكتور "راتب" مع "أبي العلاء" هو الفكر الإنساني المشترك بينهما، وهذا يدل على تأثره الكبير بشاعر الفلاسفة».

    "أحمد راتب الحراكي" من أوائل مؤسسي مهرجان "أبي العلاء" بعد إحيائه، وأصبح الرئيس الفخري له بعد ذلك، تزوّج متأخراً والسبب ولعه الكبير بالسياسة حيث كان ينتمي للحزب السوري القومي وحين انحل الحزب ابتعد عنها.

    وفي أواخر حياته انعزل قليلاً عن المجتمع بعد تعرضه في مطلع التسعينات لحادث مؤلم فقد فيه إحدى عينيه إثر ارتطامها بطاولة في منزله ليلاً، ولم يدم الطبيب "راتب" طويلاً إذ وافته المنية سنة 1994، ومازالت إنسانيته موضوع طويل يتداوله محبّوه، ولا شكّ أنّ "موزون على موزون" و"إنساني" الصفتين اللتين أطلقهما عليه صديقه الأستاذ المتقاعد "حازم" وابنه المهندس "راسم" هما أهم ما يمكن أن يقال عنه.