على بعد خطوات من سوق "العطارين" في "حمص" القديمة، تقوم صناعة عريقة عرفت منذ آلاف السنين، هي صناعة النحاس، هذه الصناعة التي أبدعت أروع الأواني والأطباق والدلاّت والصمديات فمنها ما هو مدقوق ومرسوم برسوم هندسية إسلامية رائعة ومنها ما هو مطعّم- عن طريق تطعيم النحاس بالفضة أو الذهب- وما هو منقوش بآيات قرآنية أو أبيات الشعر.

وسائل ومهارات يدوية ابدعت في هذه الصناعة من حيث استخدام الطرق والحرق والنقش والتطعيم، وإلى اليوم مازال هناك من يحتفظ بهذه المهنة ويمارسها أباً عن جد، فالسيد "ماجد عبد الحليم مندو" يخبرنا عن مهنته وكيف ورثها عن أبيه وجدّه، مفتخراً بمهنة العائلة التي بدأت لديهم منذ أكثر من مئة عام، ويعتبرها إرثاً قيماً يجب عدم التفريط به.

معظم الأشكال التي نصنّعها تدخل في الاستخدام المنزلي، كأواني الطبخ والتقطير والصواني الخاصة بمحال الحلويات والأجران إضافة إلى بعض الأشكال الخاصة بالعرض كالصمديات والتحف والسيوف

يقول "ماجد": «منذ صغري وأنا أشاهد والدي وجدّي كيف يصنّعون النحاس، وكيف يحولون صاجات النحاس إلى أوانٍ وأشكال يرغبها الزبائن، هذا كله أعطاني دافعاً لتعلم المهنة وإتقانها، وأنا بدوري أريد الحفاظ عليها من التدهور، فضلاً عما تحمله من أصالة وجمالية كبيرة تعتبر من أهم عوامل جذب السياح».

بداية سوق النحاسين

وعن الأشكال النحاسية التي يقوم "ماجد" بتصنيعها يقول: «معظم الأشكال التي نصنّعها تدخل في الاستخدام المنزلي، كأواني الطبخ والتقطير والصواني الخاصة بمحال الحلويات والأجران إضافة إلى بعض الأشكال الخاصة بالعرض كالصمديات والتحف والسيوف».

ويوضح لنا "ماجد" أن اختصاصه في هذه الصناعة يتمثل في "النحاس الأحمر" معللاً ذلك بأن تصنيع الأواني يحتاج إلى سماكات أكبر من تلك التي تحتاجها الأشكال الأخرى، وهذه السماكة تتواجد في النحاس الأحمر.

آنية تقطير من النحاس الأحمر

وعن عملية التصنيع يقول: «نقوم بإحضار أساس النحاس وهو عبارة عن صاج نحاسي مختلف السماكات والطول والعرض ونبدأ بأول عملية وهي القوشطة "وهي عملية لف دائرية ولحام" وذلك لكي يأخذ الإناء شكله الدائري، ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الثانية والتي تمثل "التنعيم والحمي" ونسميها بالتخمير على النار لكي تعطي طراوة للقطعة، وبعدها تمر القطعة بخطوتين وهما: "دق التسريح ودق اللم"، ودق التسريح تنتج لدينا قاعدة عريضة وفم ضيق، أما دق اللم أو "الكونيك" فهي تعطي الشكل المطلوب للإناء، ثم نقوم بدق "تعبئة" من أسفل الإناء لإعطاء توازن للإناء وذلك حسب القياس الذي نريده ونكففه لكي يلتحم ببعضه كالمسننات، ثم تأتي مرحلة "التطريق" وهذه المرحلة مهمة جدّاً باعتبارها تمنح القوة للنحاس وتُذهب التجعيد وهي بالتالي خطوة جمالية تُكسب القطعة رونقاً خاصّاً، وأخيراً يتم دهن القطعة بالأسيد وجليه لكي يعطي النحاس لونه الطبيعي، ثم التبييض من خلال طليها بالقصدير، وبعدها يتم إضافة النقوش والرسمات المرغوبة عبر دقّها يدوياً».

ومن جهة أخرى يرى "ماجد" «أن النحاس من أفضل أنواع المعادن المستخدمة للطهو فهي صحية وتمتاز بسرعة امتصاصها للحرارة وقدرتها الكبيرة على التوزيع الشامل للحرارة، وهذا ما جعل بعض الناس يحاولون الإبقاء إلى اليوم على بعض الأواني النحاسية، نظراً لجماليتها وميزاتها الإيجابية».

أواني طهي نحاسية

إلا أن هذه المهنة باتت تمارس على نطاق ضيق ولم يبق ما يصنع يدوياً إلا "الأواني" و"المناسف" و"صواني الحلويات"، فيما عدا ذلك "كالصبابات" و"الدّلات" فهي تصّنع بشكل آلي باعتبارها تتطلب سماكة أقل مستخدمين في ذلك النحاس الأصفر الذي يتميز بسماكته القليلة الملائمة للمكنة.

لذلك يعتقد "ماجد" «أن هذه المهنة بقيت صامدة حتى وقعت في منافسة شديدة مع المنتجات الأخرى المشابهة مثل "الستانلس ستيل" و"الألمنيوم" و"البلاستيك" و"الميلامين"، حيث بدأت المهنة بالتراجع، وأصبح عشقها مقصورا على السائحين وبعض المهتمين من الناس، كذلك يعتبر ارتفاع أسعارها عاملاً مهماً في انكفاء الناس عن استخدامها، وتحوّلهم إلى ما هو أرخص ثمناً وأكثر مجاراة للحياة العصرية».

ومن جانب آخر يرى "محمد علاء الصفوة" وهو صاحب أحد محال البيع المخصص للنحاسيات، أن «هذه المهنة تزدهر لدى الراغبين باقتناء تحف تذكرهم بالتراث، وكذلك الراغبين في اقتناء مصبات القهوة التي تعتبر رمزاً للضيافة العربية، إضافة إلى الشرقيات والسيوف النحاسية المنقوشة بالرسومات، وهو الأمر الذي دفعه للتوجه لهذه المهنة منذ حوالي خمس سنوات، فهي في اعتقاده مهنة رابحة وجاذبة للزبائن من خلال ألوانها الشبيهة بلون الذهب».

ختاماً: يعتبر سوق النحاسين من الأسواق العريقة في مدينة حمص ومن أهم الأسر التي تحتضن هذه الصنعة أسرة "مندو" و"غالب" و"حسون" و"الحزّام".