علم من أعلام التاريخ وسجل ناصع مرصع بحروف من نور.. باعث مجد الكنيسة السريانية في القرن العشرين. الرجل الوطني، المؤرخ والأديب والموسوعة والمدبر الحكيم قداسة البطريرك المرحوم (مار أغناطيوس افرام الأول برصوم) رئيس الكنيسة السريانية في العالم.

والحق أن كان مثلث الأقطاب فهو قطب وطني وفي الوقت نفسه قطب علمي وقطب ديني وروحي.

هو من أسرة برصوم الموصلية العريقة أبصر النور في / 15 حزيران 1887/ في بيت كان منتدى للعلماء والوجهاء. من هذا البيت الممتلئ من العلم والفضيلة نشأ الطفل (أيوب)، وتلقى علومه الأولى في مدارس السريان ثم في مدرسة الدومينيكان وتوسع في آداب اللغة العربية وبيانها وبديعها، وقبل أن يبلغ الثالثة عشرة من العمر أتقن العربية وقسطاً صالحاً من السريانية والفرنسية والتركية.

وفي السابعة عشرة من عمره اختار لنفسه طريق الزهد فرحل إلى دير الزعفران في ماردين وهناك أتقن السريانية والتركية ودرس الإنكليزية وتعمق في علم اللاهوت وانكب على دراسة الكتب الفلسفية والمنطقية لكن اهتماماته انصبت بشكل خاص على تاريخ الكنيسة السريانية الأنطاكية ولغتها وتراثها.

عندما بلغ العشرين عمره رسمه البطريرك (عبد الله الثاني صطوف) شماساً ثم راهباً عام /1907/م واختار لنفسه اسم القديس مار أفرام السرياني ثم في تاريخ /20 أيار 1918م/ عينه البطريرك (أغناطيوس إلياس الثالث) نائباً بطريركياً في حمص ورسمه مطرانا على سورية ولبنان باسم (مار سويريوس).

وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى برز نجمه ليس كرجل دين فقط ولكن كرجل وطني، يدعو لوحدة السوريين جميعا في مواجهة الانتداب الفرنسي، فكان انتخابه عام / 1919/م ليكون ضمن الوفد السوري الذي توجه لحضور مؤتمر الصلح في باريس للمطالبة بحقوق الشعب السوري، في ظل الوجود الفرنسي والإنكليزي على أرضه، وفي خضم أحداث المؤتمر علا صوت المطران (سويريوس) ليس فقط للمطالبة بحقوق الشعب السوري ولكن أيضا للمطالبة بحقوق بقية الشعوب العربية في المنطقة، وكانت تلك الزيارة أيضا فرصة له لدراسة مخطوطات سريانية موجودة في باريس. ولما دخل الجيش الفرنسي حمص اختاره الحماصنة ليتكلم باسم المدينة حيث كان لقبه " مطران العروبة" وقد خبر الفرنسيون أنفة البطريرك فعرفوه صلب العود، حكيماً لا يجارى متمسكاً بالحق مقداماً شجاعاً يدافع عن وطنه ومواطنيه بقوة واطمئنان فكانت الدار البطريركية منتدىً لأحرار سورية يجتمعون إلى قداسته للمداولة والبحث واستمداد النصائح والمشورة.

في تاريخ / 3 إلى 21 آب 1927/م قام المطران (سويريوس) برحلة جديدة أخذته إلى جنيف ولوزان كمبعوث رسولي عن كنيسته لحضور المؤتمر العالمي عن الإيمان. وبعد ذلك أرسل بصفة نائب بطريركي للولايات المتحدة الأمريكية حيث أقام هناك ثلاث كنائس جديدة للسريان المقيمين هناك ورسم لهم كهنة لخدمتهم، كما قام هناك أيضا بإلقاء عدد من المحاضرات عن اللغة السريانية وآدابها في جامعة شيكاغو .

وبعد وفاة البطريرك انتخبه المجمع الأنطاكي المقدس في مدينة حمص بتاريخ / 16 كانون الثاني 1933/م خلفاً للبطريرك الراحل باسم البطريرك (مار أغناطيوس أفرام الأول برصوم)

كان البطريرك (برصوم) متعصباً للشرق العربي واللغة العربية والفكر العربي .. كان يردد دائماً " شرقنا أفضل بلاد العالم" وهو المدافع عن بني قومه بوجه المستشرقين غير المنصفين حين قال" إذا كان لكم فضل التنقيب والكشف بحكم ما تملكون من ثروات فهذا لا يني أنكم صرتم أساتذتنا .. نحن أدرى بأسرار لغتنا وأدبنا وتاريخنا وستظل روحانية الشرق العريقة منهلكم النمير الذي تنشده نفوسكم الجافة الظمأى".

من أهم أعماله في عهد أسقفيته إغاثته للألوف من النازحين من أبناء شعبه من كيليكيا والرها إلى سورية ولبنان ما بين عامي /1922/م و/1924/م.

عندما تسلم البطريركية أسس أبرشية جديدة في منطقة الجزيرة السورية باسم " أبرشية الجزيرة والخابور" عام /1933/م، كما أصدر المجلة البطريركية بإشرافه الشخصي في دير مار مرقس بالقدس، وأنشأ المدرسة الإكليريكية الأفرامية في مدينة زحلة بلبنان والتي عزز بها الكنيسة السريانية وجعل لها مستقبلاً روحياً وأدبياً باهراً. وقد باشرت مهمتها منذ عام / 1939/م حتى عام /1945/م حيث نقلها البطريرك إلى الموصل بالعراق.

ويبقى اكتشافه لزنار السيدة العذراء في حمص حدثاً تاريخياً هاماً ارتبط بعهده في /30 كانون الأول 1953/م، وفي عام توليه البطريركية / 1933/م نقل البطريرك (برصوم) الكرسي البطريركي إلى مدينة حمص قبل أن ينتقل عام /1958/م إلى دمشق، لأنه لم يرد أن يتخذ من العواصم والمدن الكبيرة وسيلة لتعظيم شخصيته وإحاطتها بأسباب التبجيل بل اتخذ من شخصيته وسيلة لتعظيم البطريركية.

لقد أتحف المكتبة العربية بمؤلفات قيمة تتناول كل ما يتعلق بتاريخ الكنيسة السريانية وآدابها وصلاتها ببقية اللغات السامية وعلى الأخص اللغة العربية والبعض الآخر لا زال مخطوطاً

ومن كتبه المطبوعة نذكر: الردعة في تفنيد الرجعة، التحفة الروحية في الصلاة الفرضية، نزهة الأذهان في تاريخ دير الزعفران الدرر النفيسة في مختصر تاريخ الكنيسة، الألفاظ السريانية في المعاجم العربية، ديوان قيثار القلوب ويضم (16) مقالة نثرية وقصيدة.

وأهم كتبه على الإطلاق كتاب اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية /حمص 1943/ فهو يضم كل ما أنتجته قرائح المؤلفين السريان في نحو ألفي سنة من لغة وأدب وفلسفة ودين وتاريخ بشتى أنواعه مع تراجم علماء السريان وأدبائهم ما قبل الميلاد حتى عام /1930/ باللغة العربية وبأسلوب أدبي رفيع المستوى. بالإضافة إلى كتبه المطبوعة لا يمكن أن ننسى أيضاً مقالاته التاريخية النفيسة التي نشرها في مجلات / الحكمة، الكلية، البطريركية، المجمع العلمي العربي/ بمواضيع متعددة.

وهناك عدد من الكتب الأخرى مما حققه وترجمه ونشره من آثار السلف نذكر منها : كتاب الإشحيم (صلوات سريانية)، كتاب تهذيب الأخلاق للفيلسوف يحيى بن عدي، كتاب حديث الحكمة ( مختصر في المنطق والفلسفة) لإبن العبري، وله رسالة في علم النفس الإنسانية بالعربية للعلامة إبن العبري وغيرها الكثير من المؤلفات والمخطوطات التي لم تتم طباعتها بعد.

توفي البطريرك (برصوم) في 23 حزيران من عام /1957/ ودفن في مدينة حمص. وبمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيله وفي حزيران من العام /2007/م نظمت كنيسة السيدة أم الزنار بحمص برنامجاً احتفالياً استمر عدة أيام شارك فيه عدد كبير من الفعاليات السياسية والاجتماعية والدينية في محافظة حمص، وتم خلاله عرض فيلم وثائقي عن حياة قداسته وإقامة ندوة خاصة عن شخصيته المتميزة وافتتاح قاعة خاصة سميت على اسمه وتضمنت صوراً متنوعة للبطريرك الراحل تعرض أهم الأحداث التي شارك فيها.