ولد رحمه الله تعالى عام 1900- كما يذكر- يتيم الأب في بيت عُرف بالزهد والورع والده وجده رحمهما الله تعالى عُرفا بالتواضع والسيرة الحسنة، وبعد سفر والده الشيخ جنيد إلى روسيا للجهاد تربَّى في حجر والدته رحمها الله تعالى مع أخويه الكبير محمد، والصغير أحمد، فهو أوسط أولاد جنيد.

قدَّر الله عزَّ وجل أنْ مرض محمود الطفل بمرض عضال وأصيب بشلل نصفي تقريباً، فصارت والدته تخدمه وهو على سرير المرض لا يستطيع الذهاب إلى قضاء الحاجة. مرضه لم يمنعه من حفظ القرآن الكريم صغيراً، وكان يعرف فيه الذكاء والحفظ كما عرف عنه صوته الرخيم الذي كان يسمع منه أثناء تلاوة القرآن الكريم أو إنشاد بعض القصائد في مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم. شفاء الطفل المشلول كان فيه معجزة وعبرة ففي أحد الأيام خطر على بال والدته أن تأخذه إلى مسجد الأسرة (مسجد الشيخ مسعود) ففرشت له فراشاً عند مقام الشيخ مسعود، وصارت تأتيه بالطعام وتخدمه وتتركه ليلاً يتلو كتاب الله عزَّ وجل، وذات ليلة وبعد أن قرأ آيات من الذكر الكريم شعر أنَّ الحياة والحركة بدأت تدبُّ وتعود لنصفه العليل، وإذا به يشعر أنَّ عنده قدرة على الحركة، وكان الوقت قريب الفجر فلما وجد قدرة على الحركة، تحرَّك نحو المئذنة القصيرة وصار يُسبِّح الله بصوته الرخيم..

حصل الشيخ رحمه الله على كثير من العلوم وركز على أمرين هامين: الفقه والسلوك في جميع دروسه وفتاويه ومجالسه، وكانت عنده براعة في تطعيم الدرس الفقهي بحكايات الصَّالحين، حتى إنه إذا كان يتكلم في الطهارة أو الوضوء، أو الاغتسال يأتي بحكايات الصَّالحين مما يُعطي لدرسه روحانيَّة خاصَّة قلَّ أن توجد أثناء تقرير مثل هذه الدروس.

كان محباً لنشر العلم منذ أن شعر أن عنده قدرة على تدريس غيره، وقد بدأ مبكراً في تدريس القرآن الكريم، والعربية والفقه، كان يعودُ المرضى ويشهد الجنائز، ويشارك الناس في أفراحهم، ولو أدّى به هذا إلى السهر الطويل حتى إنه كان له دروس بعد العشاء مع مشيخته في البيوت، ثم لما صار شيخاً صار يدير هذه الدروس، وبسبب إيجابيته في الأمور الاجتماعية صارت له محبَّه عظيمة في قلوب الكثيرين.

في أعوام الستينيات لحظ الشيخ رحمه الله أن أزمة تحدث عند سفر المشايخ إلى الحج، فليس هناك عدد كاف من الخطباء ينوب عن المسافرين للديار المقدسة، ولا من ينوب عنهم في الإمامة، والخطابة تحتاج إلى جرأة نوعاً ما، فخطر على بال الشيخ أن يسدَّ هذا الفراغ الذي يحصل، فخصَّص ساعة بعد صلاة العشاء من يوم الأربعاء في مسجد الشيخ كامل يُكلِّف فيها بعض الطلبة وهم صغار بتحضير موضوع أو شرح حديث أو تفسير آية وأمام الحضور، فاستطاع أن يكسر حاجز الرهبة من صعود المنبر والخطبة في الناس، فتعوَّد الطلبة الصغار على التحدُّث والخطابة، والشيخ يشجعهم.

كلُّ هذا العمل وهذا النشاط وهذه الدروس، والشيخ ربُّ أسرة مكوَّنة من أربعة عشر شخصاً، ربَّاهم على العفَّة والقناعة والزهد والورع، بيته بيت متواضع ضيق مساحته حوالي 90م، غرفتان ومطبخ صغير.

كانت آخر حياة الشيخ ابتلاء وامتحاناً، حيث أصابته هموم عامَّة وخاصَّة كان لها أثرها على الشيخ فمرض عدَّة أمراض وتغيَّر وضعف، وظلَّ على الرغم من مرضه يتابع مهامه التي يستطيع متابعتها، ويتحمَّل فوق طاقته حتى 1993م حيث وافته المنية.

وما إن علمت حمص بالخبر حتى خرجت من بيوتها تعلن الوفاء لعالمها ولدينها وإسلامها، خرجت حمص التي تعتبر أنها مدينة لهذا الشيخ، وأن تشييعه يعني تسديد بعض ما للشيخ عليها من حقوق. وكانت الجنازة التي لا يتصور إنسان أن تكون بهذا الكم من المشيعين فحتى النصارى شاركوا في التشييع...!

الشيخ الجليل المرحوم محمود جنيد لم يضيع لحظة من حياته إلا متعلِّماً أو معلِّماً، وحبُّ العلم سجيَّة فُطر عليها، خالط حبُّ العلم لحمه وعظمه كما خالط حبُّ الصالحين شغَاف قلبه فاستحق التكريم والخلود في ذاكرة أبناء محافظته.. حمص.