من رحم الفقر خرج وأطلق العنان لطموحه، فأبحرت به سفن النجاح إلى ما لا نهاية، لم يعرف المستحيل يوماً لأنه يؤمن بالحياة، ولم يعمل لمجدٍ شخصيٍ قط، إلا أن التاريخ أنصفه، فخلَّده في وجدان من عايشوه.

رحل المهندس "زيا يوخنا أوديشو" في مدينة "ملبورن" الأسترالية بعيداً عن الوطن الذي أحبه، لتطوى معه صفحة مشرقة من الكفاح والنجاح، ومع أن الراحل لم يكن يفكر بالسفر البتة، إلا أن الأقدار ساقته إلى آخر المعمورة، هذا ما قاله ابن شقيقته السيد "بنيامين أوديشو" خلال اللقاء الذي أجرته معه مدونة وطن "eSyria" في منزله بشارع "القضاة"، بتاريخ 6 تشرين الأول 2014، وتابع قائلاً: «ينتمي الراحل إلى أسرة ريفيةٍ فقيرة؛ كان والده فلاحاً يزرع القمح والشعير، ولديه بستانٌ من أشجار العنب كما كان يعمل على "النول"، كل هذه الأعمال لم تكن تسد حاجة الأسرة.

كان عمي مولعاً بالتاريخ والشعر والأدب، وكان يبحث كثيراً في تاريخ الآشوريين ونشأتهم وما تعرضوا له عبر السنين التي مرت، فحقق في كثير من الدراسات التي نشرت حول تاريخ بني جلدته، كما كانت له فلسفته الخاصة بالحياة، وقد نشر كتاباً بهذا الخصوص، أما فيما يتعلق بتواصلي معه في المهجر فقد كنت مقلاً بهذا الاتجاه، نظراً لبعد المكان وصعوبة الاتصال وما إلى ذلك، لكن ما لا أستطيع نسيانه هو حبه لوطنه ورفضه للهجرة، وأذكر أنه قال لي ذات يومٍ بعد أن عاد من بعثة إلى "أميركا"، يا ابن أخي مهما تبحث في العالم لن تجد أجمل من "سورية"، والسؤال الذي لم أجد له إجابه لهذا التاريخ، ما الذي دفع عمي إلى الاغتراب؟

ولد الراحل في قرية "تل عربوش" إلى الغرب من مدينة "الحسكة" على بعد 18 كيلو متراً تقريباً، عاش فيها كما عاش أقرانه ودرس في مدرستها التي تحمل اسم القرية، ثم انتقل ليكمل المرحلتين الإعدادية والثانوية في مدينة "الحسكة"، تم إيفاده إلى "القاهرة" ليدرس هندسة الميكانيك عام 1958؛ وذلك لتفوقه في المرحلة الثانوية، تخرج في الجامعة عام 1963 ثم عاد إلى الوطن، عمل في البداية في مديرية الخدمات الفنية، ثم انتقل ليعمل في شركة حقول "الجبسة" للنفط، كانت له علاقات اجتماعية واسعة، كما كان له بصمات كثيرة تناقلها من واكبوه في تلك الفترة، ومما سمعته أنه عندما وصل إلى مديرية حقول النفط شاهد عدداً من المحركات الضخمة خارج الخدمة، فسأل عنها وقيل إنها منسقة، وقتئذ كانت الشركة بأمسّ الحاجة لهذه المحركات، فوجه العمال بإخراجها إلى المرآب؛ وقام بإصلاحها بنفسه بمساعدة عدد من العمال والفنيين وأعادها للخدمة، ما أدى لانزعاج بعض الخبراء الذين نسقوا هذه المحركات وطالبوا بتأمين محركات جديدة».

على شاطئ المحيط الهادي

يتابع: «بعدها انتقل إلى المؤسسة العامة لمياه الشرب بمنصب مدير عام، ومع أنه مهندس في الميكانيك قام بتصميم الأبنية التي نراها اليوم في المؤسسة، كما صمم ونفذ صمامات عدم رجوع، تستخدم في حال انقطاع التيار الكهربائي لتمنع رجوع الماء إلى المحركات، إضافة إلى تصميم رافعة عملاقة تم تصنيعها في "الحسكة"، وأدخلها إلى الخدمة لتقوم بأعمال المؤسسة، كما كنت أراه ينفذ لوحات كهربائية للمحركات والمنشآت الصناعية، إذ لم يكن يعرف المستحيل ولم يكن يؤمن بالتقوقع داخل الاختصاص، وفي ذات الوقت كان يتردد إلى مكتبه الخاص الذي ينفذ فيه بعض الدراسات، ومن أجمل ما سمعته عنه أنه استقبل وفداً وزارياً؛ جاء لتخطيط شبكة مياه حي "الهلالية" في مدينة "القامشلي"، فسأل الوفد عن التكلفة التقديرية لتخطيط ودراسة المشروع، فقيل له آنذاك 200 ألف ليرة سورية، فقال لهم ارجعوا إلى الوزارة وأخبروا السيد الوزير أنني سأنفذها بالمجان ودون مقابل، وفعلاً قام بدراستها وتنفيذها وهي قائمة حتى يومنا هذا».

أما على الصعيد الشخصي، فيقول "بنيامين": «كان عمي مولعاً بالتاريخ والشعر والأدب، وكان يبحث كثيراً في تاريخ الآشوريين ونشأتهم وما تعرضوا له عبر السنين التي مرت، فحقق في كثير من الدراسات التي نشرت حول تاريخ بني جلدته، كما كانت له فلسفته الخاصة بالحياة، وقد نشر كتاباً بهذا الخصوص، أما فيما يتعلق بتواصلي معه في المهجر فقد كنت مقلاً بهذا الاتجاه، نظراً لبعد المكان وصعوبة الاتصال وما إلى ذلك، لكن ما لا أستطيع نسيانه هو حبه لوطنه ورفضه للهجرة، وأذكر أنه قال لي ذات يومٍ بعد أن عاد من بعثة إلى "أميركا"، يا ابن أخي مهما تبحث في العالم لن تجد أجمل من "سورية"، والسؤال الذي لم أجد له إجابه لهذا التاريخ، ما الذي دفع عمي إلى الاغتراب؟».

مع بناته

وتقول ابنته الكبرى "غادة زيا أوديشو" التي تواصلت معها عبر الإنترنت: «لم يعمل والدي في تخصصه قط منذ وصلنا إلى "أستراليا" ولا حتى في غير تخصصه، فقد عكف على القراءة والكتابة فقط، كان يهوى الجو الأسري ويعيش فيه، فلدية أربع بنات أنا أكبرهن وأعمل في مهنة المحاماة، كما تعمل أختاي في المحاسبة، أما الأخيرة فتعمل ببرمجة الكمبيوتر، وقد شجعنا والدي منذ الصغر على الاستقلال التام والاعتماد على الذات، كما منحنا حرية الاختيار وأعطانا العديد من الفرص ما ساهم في صقل شخصياتنا، أما هو فكان يعيش بكمٍ كبيرٍ من العاطفة التي ولدت وكبرت معه في الوطن، فكان شوقه لمسقط رأسه كبيراً كما كان يشتاق إلى الناس هناك، وفي الوقت الذي يتوقف فيه عن الكتابة كان يلتفت للعناية بأحفاده، فلديه أربعة أحفاد، هم: "سارة، ونوا، وجين، وأليساندرا"، لذا لم أكن أراه يشعر بالوحدة، إلى أن رحل عنا ليترك فراغاً كبيراً في حياتنا؛ تاركاً لنا إرثاً ثميناً من الكتب والمؤلفات والذكرى الحسنة».

أما الراحل فقد كتب عن نفسه بلغة الغائب في بداية أحد كتبه قائلاً: «المهندس "زيا يوخنا أوديشو" من مواليد 1938، قرية "تل عربوش" ناحية "تل تمر" محافظة "الحسكة"، درس في جامعة "القاهرة" بجمهورية "مصر" العربية، كان قد أوفد عام 1958 في بعثة دراسية نظراً لتفوقه في الدراسة الثانوية، وتخرج في عام 1963 بدرجة بكالوريوس في الهندسة الميكانيكية بمرتبة امتياز، عمل في وظائف حكومية وفي عدة مراكز وإدارات رسمية في وطنه الأم "سورية"، وذلك لمدة عشرين عاماً، كان أبرزها مدير عام مشروع المياه في مدينة "الحسكة"، حيث كان قد أجرى تمديد شبكة مياه جديدة في المدينة وكان له الفضل الكبير في إنهاء مشكلة شح المياه، وبنفس الوقت عمل كمهندس دراسات في مكتبه الخاص لعدة سنوات، هاجر إلى "أستراليا" عام 1992، له مؤلفات عديدة لم يصدر منها سوى شعر باللغة الآشورية وكتاب "قصة الثورة" 2006، و"همسات حائرة" في عام 1982، وكتيب صغير باللغة العربية تحت عنوان "فلسفتي في الحياة"، وديوان آخر باللغة الآشورية بعنوان "مرثاة نينوى" عام 2004، وأعمال أخرى كثيرة لم تر النور مثل: "ينابيع الحكمة"، و"نظرية المعرفة" باللغتين العربية والإنكليزية، وديوان "الزنبقة والربيع"، وديوان "لا تنتظروني"، وديوان "تأوهات في أزقّة الاغتراب"، و"أنشودة الأناشيد عشتار"، وقصائد أخرى متفرقة».

بنيامين أوديشو