تُفرض الكثير من العادات والطقوس نفسها في فصل الشتاء بالجزيرة السورية، لكن لحكايات الجدات لوناً آخر تفرضه الهيبة والوقار، ويكون سكّره الأطفال الصغار عندما تجتمع حلقاتهم للاستماع بمتعة تارة وبخوف ووجل تارة أخرى، فتكون العبرة والمتعة.

مدوّنة وطن "eSyria" وبتاريخ 27 تشرين الثاني 2015، وجدت تلك الطقوس في عديد المنازل التي زارتها مؤخراً، حيث أعدّت تلك البيوت نفسها جيداً لاستقبال فصل الشتاء، لتبدأ معها تلك الفعاليات الشعبية والاجتماعيّة المميزة، وتبقى أجمل اللوحات تلك الحلقة الدائريّة التي تتشكل من الأطفال حول امرأة كبيرة السنّ، ولها خبرة في سرد القصص والحكايات، ليكون الصمت الرهيب عند الأطفال، وكلهم آذان مصغية لأحداث القصة الشعبيّة المعروفة "علي بطّة"؛ هذا ما قالته الراوية الشعبية "نوفة محمود" التي تشتهر بطريقتها المثالية في نثر الحكايات للأطفال، وأضافت: «عندما يأتي فصل الشتاء تكون لي وقفة يومية مع القصص والحكايات الشعبية المخصصة للأطفال، منها ما هو معروف ومتداول في كثير من الأمكنة، ومنها ما هو محلي خالص لا يعرفه إلا أبناء المنطقة، فالأهل والمعارف يتناوبون على دعوتي إلى منازلهم، لأنهم على معرفة تامة بقدرتي على رسم المتعة والقبض على مخيلة الأطفال مهما بلغ عددهم، وتبقى الكثير من عناوين الحكايات في ذهن البراعم، وأغلب الأحيان يتفقون على عنوان محدد، ويطلبون مني سرد حكايته لهم من جديد، وأكثر ما يطلبونه مني، حكاية "علي بطّة" فهم يعشقون قصص الأبطال والبطولات التي يحققونها ضد رموز الشر والحقد والكراهية، وبطل القصة يشتهر بتلك المواصفات، وخلال سرد الأحداث نبين لهم ضمن فواصل إرشادية أن المطلوب منهم الاقتداء بالخصال والصفات الجميلة والإنسانية، وضرورة الابتعاد عن الشر والحقد، فبطلنا "علي بطة" كان مستعداً للانتقال من قرية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر في سبيل نشر العدالة والانتقام من الظلم والظالم، وفي أحيان كثيرة من دون استخدام العنف، كل ذلك الحوار والسرد بحاجة إلى عنصر التشويق والمفاجأة وطريقة خاصة بالأطفال، والقصة التي تحمل بعض القسوة نتجنب ذكرها حرفياً للطفل».

مجرد وصول عمتي إلى منزلنا، نتواصل مع أطفال وأولاد عمي وخالتي للحضور، وحتّى أطفال الجيران يأتون لمتابعة هذه المغامرة والاستماع إلى قصّة شعبية عمرها مئات السنين، ونلح عليها لتحكي لنا عن قصة "مم وزين"؛ فالعاشقان ذاقا كل القهر والعذاب، ولم يصل أحدهما إلى الآخر بسبب الفتن، وكذلك لنا رغبة بالاستماع إلى "سيامند وخجة" فقد كانا عاشقين، لكنهما فقدا حياتهما في الغابة من دون أن يتزوجا بعد حب كبير، ولدينا لهفة كبيرة بالاستماع إلى حكايات أحداثها تكون في الغابات والبرية

الطفلة "نور عبد الرحيم" أشارت إلى أن المتعة الحقيقية للاستماع إلى حكاية شعبية، والجميع حول المدفأة، والعمة الكبيرة في السن تتلو لهم الأحداث، وتابعت: «مجرد وصول عمتي إلى منزلنا، نتواصل مع أطفال وأولاد عمي وخالتي للحضور، وحتّى أطفال الجيران يأتون لمتابعة هذه المغامرة والاستماع إلى قصّة شعبية عمرها مئات السنين، ونلح عليها لتحكي لنا عن قصة "مم وزين"؛ فالعاشقان ذاقا كل القهر والعذاب، ولم يصل أحدهما إلى الآخر بسبب الفتن، وكذلك لنا رغبة بالاستماع إلى "سيامند وخجة" فقد كانا عاشقين، لكنهما فقدا حياتهما في الغابة من دون أن يتزوجا بعد حب كبير، ولدينا لهفة كبيرة بالاستماع إلى حكايات أحداثها تكون في الغابات والبرية».

ينتظرون من يروي الحكاية

أمّا "صالح الحاج محمود" فيؤكد أنّ إتقانه لفن الشعر يجعله متصدراً للجلسات والأماكن العامة، ويشير إلى أنه يستخدم الشعر في سرد الحكايات الشعبية، وعن ذلك قال: «يشتهر الريف بوجه عام بأنه عندما يحل المساء في ليالي فصل الشتاء، يتجمهر الناس في منزل ما، والجميع يستمعون إلى قصة وحكاية شعبيّة، والراوي يتطلب منه الحكمة والحنكة في الإلقاء والخطاب، وأهم نقطة في الحكاية هي إضفاء الزمن الطويل والتشويق والعاطفة مع البطل خلال السرد، وهذا يكون من اختصاص المرأة الكبيرة، لأنها تكون حافظة وبدقة لقصص الماضي البعيد، بعضها واقعي ومنطقي وعقلاني، وبعضها من أجل أخذ العبرة والفائدة، فهي تدعو إلى المحبة والسلام والتعاون، والتركيز الأكبر يكون باتجاه الأطفال واليافعين، وأحياناً كثيرة أتصدى لسرد حكاية شعبية أجزاء كبيرة من أحداثها تكون من خلال الشعر البدوي، وهذا اللون يستهدف الكبار تحديداً، فالكثير من الأبيات الشعرية تتضمن ألغازاً، والجالسون يقلبون الأفكار من أجل الوصول إلى الحل، وهنا تكون الفائدة العظيمة من الحكاية الشعبيّة».

السيد صالح المحمود