لم يأتِ التطور دفعةً واحدة في أيٍ مناحي الحياة، بل كانت مراحل التقدم تسير ببطء شديد وذلك وفق مقتضيات الحاجة، لذا كان من الضروري البحث عن وسائط لراحة المسافرين.

"البوسطة" هي الآلية التي أمّنت ما يريده المسافر، وهي التي ساعدته ليتخلص من وسائط النقل القديمة المتمثلة بعربات تجرها الدواب، والتي كان السفر عبرها يتطلب تجهيزاً طويلاً.

أن هذه الوسائط ما زالت تعمل إلى هذا التاريخ، لكن أعدادها قليلة لعدة أسباب، أهمها عدم رغبة الركاب في استخدامها مع تواجد حافلات حديثة، ومن جهة أخرى قدمها وكثرة أعطالها وقلة سرعتها، إلا أنها تنشط في المسارات الممتدة بين القرى، لأن الطرق لا تزال ترابية ولا يرغب أصحاب السيارات الجديدة في تعطلها، بالمحصلة هي تؤمن لي مصدراً للعيش كما تؤمن الخدمة لسكان الأرياف البعيدة

مدونة وطن "eSyria" التقت "طه سليمان" من أهالي قرية "ملا سباط" في الريف الشمالي، بتاريخ 10 شباط 2015، ليتحدث بما تسعفه الذاكرة عن هذه الوسائط، فقال: «في السابق كنا نعتمد على العربات التي تجرها الدواب، فكنا نعمل عليها ونتنقل بواسطتها؛ إذ إنها كانت الوسيلة الوحيدة في السابق، وفي عام 1955 وصلت "البوسطات" إلى المحافظة، فرفعت العناء عن المسافرين، فقد كنا نقضي نحو 12 ساعة للوصول من القرية إلى المدينة؛ التي تبعد نحو 60 كيلومتراً، لكن مع دخول هذه الآليات تقلصت المدة إلى أربع ساعات، ولم تكن الطرق وقتذاك معبدة، بل كانت ترابية، كما أنها لم تكن بنفس المسارات الحالية، لذا كنا نمر بعشرات القرى حتى نصل إلى وجهتنا، وقد كانت الأتربة تعتلي رؤوس المسافرين حتى لا تكاد تُعرف الوجوه، وهذا الكلام في فصل الصيف، وفي الشتاء كنا نرجع للاعتماد على العربات، وفي فترة لاحقة اعتاد الناس التحرك بالجرارات الزراعية، فكثرة الأمطار وطبيعة الطرق كانت تحول دون حركة السيارات».

مواصلة العمل

يتابع: «كانت "البوسطات" لا تنفذ سوى رحلة واحدة في اليوم، فقد كانت تتحرك من "عامودا" الساعة السادسة صباحاً، ولا تصل إلى "الحسكة" حتى الثانية عشرة ظهراً، وفي الساعة الواحدة تأخذ طريق العودة ولا تصل إلا بعد المغيب، ولأنها لم تكن تتسع إلا لنحو 30 راكباً كان الناس يركبون فوق السقف، وبكل الأحوال لم يكن السقف يفرق كثيراً عن الداخل، فالحرارة العالية والغبار الكثيف هو القاسم المشترك عند جميع الركاب، ومن المناظر التي لا تنسى؛ انتظار الناس على قارعة الطريق حتى تمر "البوسطة"، فيتدافعون للركوب، ومعظمهم كانوا يصعدون إلى الأعلى بسبب امتلاء المقاعد، كما كانت هذه الوسائط تحمل كل ما تجده أمامها من أغنام وماعز وخراف، وحتى الحشائش التي يحملنها النسوة لبيعها في المدينة، وقتها كانت الأجرة نصف ليرة سورية ثم بدأت ترتفع تدريجياً حتى وصلت إلى ليرة ونصف الليرة».

وقال "عيسى حمينة" من سكان قرية "عمر زوباش": «تنقسم "البوسطات" إلى قسمين كبيرة وصغيرة، أما الثانية فكانت لشخص يدعى "أحمد عرب" وكان صاحبها لا يلتزم بخط سير معين، فقد كان يذهب إلى القرى ليأخذ الناس، كما ينزل الأشخاص في الأماكن التي يريدونها، أما الكبيرة فكانت لشخص يدعى "شفيق إبراهيم"؛ وهذا الرجل كان يلتزم خط سير واحد ويقف في المواقف المعروفة لدى الجميع، كانت سيارته تتسع لنحو 60 راكباً إلا أنها تضيق بالناس، وكانوا يركبون فوق السقف ويضعون أغراضهم ودوابهم، كما كان بعضهم ممن ركبوا في كراج الانطلاق يدخلون أغنامهم بين المسافرين، وكنا نتحضر في الصباح الباكر في حال أردنا الذهاب إلى المدينة، فنقف أعلى التل وما أن تظهر من بعيد حتى نخبر الآخرين، ولم تكن إلا رحلةً واحدة، فإذا تأخر أحد عن الموعد المحدد فيضطر للانتظار إلى اليوم الثاني، وما زالت هذه الآليات تعمل إلى تاريخ اليوم، لكن على نطاقٍ ضيق وفقط بين القرى وفي الأرياف البعيدة».

عبد السلام محمد

وأوضح "عبد السلام محمد" أحد أصحاب "البوسطات": «أن هذه الوسائط ما زالت تعمل إلى هذا التاريخ، لكن أعدادها قليلة لعدة أسباب، أهمها عدم رغبة الركاب في استخدامها مع تواجد حافلات حديثة، ومن جهة أخرى قدمها وكثرة أعطالها وقلة سرعتها، إلا أنها تنشط في المسارات الممتدة بين القرى، لأن الطرق لا تزال ترابية ولا يرغب أصحاب السيارات الجديدة في تعطلها، بالمحصلة هي تؤمن لي مصدراً للعيش كما تؤمن الخدمة لسكان الأرياف البعيدة».

الحاج طه سليمان