لم تنظم "العتابا" سعياً للشهرة، لكن مصابها الجلل حرك فيها دفق الأحاسيس، فجعلت من كلماتها وداعاً لولديها، وبطريقة نظم مشبعة بالأسى أصبحت مضرباً للمثل.

مدونة وطن "eSyria" بحثت عن الأثر الطيب الذي تركته "فطيم البشر" في نفوس حُفِّاظ العتابا في "الجزيرة السورية"، والتقت بتاريخ 15 تشرين الثاني 2014، الشاعر "إسماعيل الحصن" ليروي ما وصل إليه من خبرها، فقال: «هي سيدة لم تكن معروفة أو مشهورة والأصح أنها من نساء الريف، سكنت منطقة "مركدة" على بعد نحو 100 كيلومتر جنوب مدينة "الحسكة"، ولم يجزم أحد من العارفين أنها من المثقفات أو حتى المتعلمات، لكنها قالت "العتابا" بطريقة غير مسبوقة، فقد قدمت عدداً من الأبيات بنظمٍ متزن ومدروس، لكن الحزن كان السمة الطاغية على جميع الأبيات، والحقيقة إن هذه المرأة عاشت قبل مئتي عام أو أكثر، هذه الفترة الزمنية لم تمكن أحداً من المتخصصين من توثيق أشعارها، فلم يصل منها إلا النزر اليسير، وهو حسب ما استطاع أن يحفظه الحّفّاظ أو هواة الشعر، إلا أن ما تم توثيقه يعد نظماً جميلاً ومتوازناً حسب معايير الشعر المحكي».

"فطيم البشر" شخصية حقيقية تعبر عن الأم الريفية؛ ذات القلب الرؤوف المُحبَّة لأهلها ومحيطها، وهي تنحدر من قبيلة "الجبور" التي تمتد على مساحات واسعة من "الجزيرة السورية"، لكن هذه الشخصية الفذة لم يصل عنها أي معلومات موثقة إلا عن طريق المشافهة؛ بسبب وضع المنطقة واتساعها من جهة، وقلة المهتمين بالجانب التوثيقي من جهة أخرى، وما ورد عنها من معلومات وصل عن طريق كبار السن، وهي شخصية معروفة على الصعيد الشعبي؛ خصوصاً عند المهتمين بهذا المجال

يتابع: «ومما ذكر من أثر "البشر" أنها أم لعدد من الأولاد، كانت تسكن في قرية في الريف الجنوبي، ويقابل مكان سكنها نهر "الخابور" الذي يتجه جنوباً نحو محافظة "دير الزور"، وقيل إن المنطقة التي تقابلهم تحديداً تسمى "الوسيعة"، والمقصود به المكان الواسع من النهر والكثير المياه، وقيل إن ولديها البكر والأصغر منه خرجا للسباحة في "الوسيعة"، فغرقا في النهر وعندما وصلها الخبر راحت تنشد "العتابا"؛ وتنعي ولديها، ومن أشهر ما قالت:

الشاعر إسماعيل الحصن

"يمن عندو ذلول شداد بكراي... توصلني محاري الولف بكراي

أني هلظيعت ثنوي وبكراي... وما ظن الظيّع الرِّبعي لگى".

ومعناها أنها تريد خيلاً لتركبها بأجرتها لتوصلها إلى ربوع الحبيب، فهي التي ضيّعت ولدها البكر والأصغر منه، وبرأيها إن الذي يضيّع الربيع لن يجد الخير في أي مكان».

من جهته أفرد الباحث الفراتي "أحمد شوحان" في الكتاب الذي طُبع في "دير الزور" عام 1985 عدداً من الصفحات ضمت 12 بيتاً منظوماً من "العتابا"، حيث وثق الباحث من خلال ما جمعه بعض الأبيات الشعرية "للبشر"، تدور في مجملها حول طلب المساعدة ومد يد العون للأم الثكلى، التي فقدت ولديها، ومما جاء في الكتاب:

"يمن عندو ذلول شداد بالخف.. توصلني محاري الولف بالخف

ذلولي طگ هالبسمار بالخف... تردَّت يا خلگ دون الرچاب

يمن عندو ذلول شداد منهم... يجيب لي صحيح الخبر منهم

دليلي صايبو هلواس منهم... على خلٍ ما تهنو بالحياة

يمن عندو ذلول وما عليها... شداد وكل زهابٍ ما عليها

تواعدني بيوم وما عليها... يگف ويسير سيران السراب".

وأغلب ما ورد في شروح "شوحان" تمثل في وصف حالة الأم ومعاناتها، ومناشدتها لأهل الخير والشيمة ليوصلوها إلى مكان مصرع أولادها، أو ليأتوها بالخبر اليقين حول ما أصابهم، ومما ذُكر أنها طلبت راحلة مهما كان حالها، حتى لو لم تكن مجهزة فهي مستعدة لركوبها، لأنها لم تعد تقوى على الوقوف».

بدوره قال "محمد مشوح" أحد المهتمين بالتراث الشعبي: «"فطيم البشر" شخصية حقيقية تعبر عن الأم الريفية؛ ذات القلب الرؤوف المُحبَّة لأهلها ومحيطها، وهي تنحدر من قبيلة "الجبور" التي تمتد على مساحات واسعة من "الجزيرة السورية"، لكن هذه الشخصية الفذة لم يصل عنها أي معلومات موثقة إلا عن طريق المشافهة؛ بسبب وضع المنطقة واتساعها من جهة، وقلة المهتمين بالجانب التوثيقي من جهة أخرى، وما ورد عنها من معلومات وصل عن طريق كبار السن، وهي شخصية معروفة على الصعيد الشعبي؛ خصوصاً عند المهتمين بهذا المجال».