"زمبيل فروش"، أو بائع السلال.. رمز العفّة والطهارة، ومُلهم الصمود الأخلاقي، الشاجي العارم لأميرة القصر رغم الكدر، ملحمة التجرّع بالإيمان ومعتَرك الدنايا.

موقع eHasakeh التقى السيّدة "عائشة علي" 70 عاماً من أهالي "القامشلي" حيث قالت عن هذا الموضوع: «يتداول الأكراد السوريون العديد من القصص التي أخذناها عن الأجداد شفاهةً، فمن "مموزين" إلى "زمبيل فروش" مروراً ب "فرهاد وشيرين"، إلى "سالار وميديا"، وتلك القصص حقيقية وليست أساطير من صنع الخيال، وتدور معظم أحداثها حول الصراع بين الصدق والغدر، بين النور والظلام، بين الخير والشّر، فقصة "زمبيل فروش" تعتبر من القصص الخالدة لما تتميّز به من تمسّك بالدين الحنيف، وخاصة عندما يقوم بسردها شيوخ الدين في الخطب كما كان يحصل سابقاً في "القامشلي"، حيث كان بطل هذه القصة مثالاً يُحتذى بأخلاقه وطهارته.

بعد أن أفاق القائدين وجدا نفسيهما في حالة يرثى لها، واكتشفا فيما بعد أن خاتميهما قد تبدلا، فقد وجد "مم" أن اسم "زين" مكتوب على خاتمه، وكذلك وجد "تاجدين" اسم "ستي" على خاتمه أيضاً، وهنا تدور الأحداث وتقع الأميرتان في نشوة لا تعرفان مصدرها، ولكن لعجوزة القصر حدس لكشف حالات الهيام، ومعرفة شخصية العشّاق الذين لهم رغبة الارتباط، وهي كعادتها تعد الأميرتين وتفي بوعدها، عندما تكتشف مصدر عشقهما وذلك بعد عدّة محاولات من أجل ذلك

"زمبيل فروش" كما تروي القّصة رجلٌ فقير ومتديّن جدّاً من عامّة الناس، ولكنه مهنيٌ بارع في صنع السلال المستخدمة حينها في حفظ الفاكهة، له سبعة أولاد يحبّهم كثيراً كما يحبّ زوجته لدرجة "الجنون"، ومن أجلهم يجوب البلاد معظم نهاره، صيف شتاء في سبيل جمع بعض النقود من عمله لإطعام أولاده، ويقال إنه كان جميلاً جدّاً لدرجة أن أميرة البلاد أحبّته وأرادته عشيقاً أو غاوياً لها، وهنا تبدأ المأساة بالنسبة له، على عكس بقية رجال القرية الذين لم يتوانوا في خدمة الأميرة كالعبيد في سبيل الفوز بالرضا، ففي أحد الأيام وعندما كان يجوب القرية في سبيل بيع السلّة الأخيرة وعند غروب الشمس تلمحه الأميرة، عندما كانت على شرفة القصر، فتغلي عشقاً وحلماً بهذا الرجل الوسيم الساحر رغم آثار التعب الظاهرة عليه، فترسل جاريتها في طلبه متحججة بأن الأمير يريد أن يشتري منه بعض السلال، ولكنه يتردد ولاسيَما أنه يعلم أن الأمير خارج القرية، ولكنه يخشى أن يكون الأمير قد عاد، فيذهب مع الجارية إلى حيث يقيم الأمير».

ملحمة "زمبيل فروش" كما تتخيلها الفنانة "سارا شيخي"

الأمير غير موجود في القصر، فمن أرسل في طلبه؟ هذه جارية الأميرة التي ترافقه، أيُحسب أن تكون الأميرة، فماذا تريد منه؟ بدأت الظنون تضيّعه، تضيف السيّدة "علي": «يدخل الديوان الأميري فيندهش من سحر القمر الذي أمامه، إنها الأميرة التي أمرت حرّاس القصر بإغلاق جميع الأبواب عندما يدخل "زمبيل فروش"، إنها الأميرة التي لبست الذهب فستاناً لها، إنها فرصته للغنى، لدفن الفقر تحت أرجله، ولكنه تذكر ربّه، زوجته، أطفاله الجياع العراة الذين ينتظرونه، سألها عن طلبها فأجابت بكلمات إغراء لم يتعوّد على سماعها حتى من زوجته، فيرفض فتحاول إغواءه مجدداً، فيصدّها، فتهدده، فيستسلم لإرادتها خداعاً، ويبادلها الحديث المعسول، فمن يرفض لأميرة البلاد طلباً كهذا، ومن يجرؤ أن يتمادى في رفضه حتى للأوامر الظالمة بحقه؟ لكنه يتوسّل إليها أن يخرج إلى سطح القصر ليصلي ركعتين، فلا يمكن الصلاة أمام امرأة، فتسمح له، ولكنها لا تأمن له وتخشى فراره ربّما، فتلحق به وتراقبه لتجده يناجي ربّه ويرجو منه العفو، ويدعو لأولاده ولزوجته أن يحميهم من كلّ شرّ.

وقف على حافة شرفة القصر، وبدأ ينظر إلى السماء، إلى ما حوله، إلى منزله، يريد أن يرمي بنفسه ليتجنب المعصية، لتعلم زوجته أن زوجها أطهر رجل في الكون، لتعلم الأميرة أنها لن تغريه بوعودها له أن يكون أميراً.

قبر "مم" و "زين" في جزيرة "بوطان"

الأميرة الباكية تتوسل له ألا يحرق قلبها بقتل نفسه، تتبادل الأدوار فـ"بائع السلال" المعذّب دائماً يبتسم، والأميرة تبكي، ولكن لا أمل يرتجى من رجلٍ أصرّ أن يفدي بحياة الدنيا في سبيل الآخرة، تقترب الأميرة منه لتصدّه ولكنه يرفض أن تلمسه، فيرمي بجسده من أعلى القصر ليسقط ميتاً، ولتسقط معه أحلام الأميرة التي رفضت أن تبقى حيّة دونه، فترمي نفسها أيضاً فتموت، لتبقى قصة "زمبيل فروش" رمزاً للطهارة وملهمة لرفض الحياة الفانية».

ملحمة أخرى التقطها الشاعر السوري "بدوي الجبل" ليستلهم منها مسرحية شعرية بعنوان "مم وزين"، وهذه الملحمة أي "مموزين"، تمثِّل إحدى رائعات الشاعر "أحمدي خاني"، الذي صاغها شعرا عن قصّة حقيقيةً في القرن السابع عشر، وقام بترجمتها إلى العربية العلامة "محمد سعيد رمضان البوطي" بعد أن أخرجها نثراً عذباً مخضّباً بالصور الشعرية، وطُبعت أكثر من 28 مرّة، فمن يكون "مم" ومن تكون "زين" وما قصتهما؟ يقول "محمود عبدي" المهتم بالفلكلور: «"مم وزين" عاشقان لم يلتقيا إلا تحت التراب، وذلك بعدما فصل القدر بينهما؛ ف "زين" هي شقيقة أمير إمارة جزيرة "بوطان" أو جزيرة "ابن عمر" حالياً، ويُنسب لها الجمال الساحر، أما "مم" الشاب الوسيم، الشجاع، صاحب الأخلاق الحسنة، فهو ابن كاتب الديوان في القصر الأميري، لـ"زين" شقيقة اسمها "ستي"، و لـ"مم" صديق بل أخ روحي اسمه "تاجدين"، وهو ابن وزير الديوان وله شقيقان مغواران يعتمد عليهما الأمير في حروبه لما يمتازا به من قوة البدن ودهاء الحكمة.

الأديب "توفيق الحسيني"

تدور الشمس 365 يوماً ويحلّ عيد "نوروز" في 21 آذار، فيخرج الجميع في الإمارة إلى البساتين والمروج وإلى الطبيعة، أما الأميرة "زين" وأختها فتأخرتا في الخروج على غير عادتهما، لنكتشف في النهاية أنهما تقصدتا ذلك، فقد تنكرتا في زيّ وهيئة رجال، بحثاً عن الرجل المناسب للارتباط به، وفي هذه الأوقات يكون "مم" وصديقه "تاج دين" قد تنكرا أيضاً بزيّ النساء في سبيل اختيار المرأة التي تناسبهما، ولاسيّما أن العادات في تلك المرحلة كانت تحول دون اختلاط النساء بالرجال، كما كانت المرأة لا ترى خليلها إلا في منزله عند الزواج.

يرى القائدان ملثمين خارج مكان الاحتفال فيتقدما نحوهما للاستفسار عن أمرهما، وما إن يتقدما نحوهما حتى يغشى عليهما من شدّة جمال الملثمين، اللذين لم يكونا سوى "زين" وشقيقتها "ستي"، فتحاول الشقيقتان إيقاظهما لكن مواكب المحتفلين تكاد تصل إليهما، فتسرعان للهرب من المكان خشية اكتشاف أمرهما، ولكن بعد أن بدّلتا خاتميهما الذهبيين بخاتمي القائدين، علّ وعسى أن يلتقيا يوماً ما».

هيام وحالة غريبة، وعجوز تكشف السّر يضيف "عبدي": «بعد أن أفاق القائدين وجدا نفسيهما في حالة يرثى لها، واكتشفا فيما بعد أن خاتميهما قد تبدلا، فقد وجد "مم" أن اسم "زين" مكتوب على خاتمه، وكذلك وجد "تاجدين" اسم "ستي" على خاتمه أيضاً، وهنا تدور الأحداث وتقع الأميرتان في نشوة لا تعرفان مصدرها، ولكن لعجوزة القصر حدس لكشف حالات الهيام، ومعرفة شخصية العشّاق الذين لهم رغبة الارتباط، وهي كعادتها تعد الأميرتين وتفي بوعدها، عندما تكتشف مصدر عشقهما وذلك بعد عدّة محاولات من أجل ذلك».

زواج عامر لـ"تاجدين" وحسرة يلفها الألم لـ"مم"، ودخول قوي للوشاية بين الحبيبين، يتابع الأستاذ "محمود عبدي": «ترسل الأميرتان العجوز لإيصال موافقتهن بالزواج إلى الشابين، فيتقدم "تاجدين" أولاً للزواج من "ستي"، حيث يكفل موافقة الأمير على ذلك، فتقام الأفراح وتعقد الدبكات فرحاً وابتهاجاً بهذه المناسبة، على أن يتقدّم "مم" لاحقاً للزواج من "زين"، لكن كيف سيتم ذلك وفي القصر حاجب ماكر ودجّال اسمه "بكر" أو "بكو" كما يشاع، وهو الحاقد المارد على "تاجدين"، وكان يحاول منذ البداية الإيقاع بينه وبين الأمير، ولكنه فشل عدّة مرّات، ونجح الآن عندما بدأ بإعلان مكائده وإغراق الأمير بالأوهام، وذلك عندما أوشى له بأن "تاجدين" يحاول أن يهدي شقيقته "زين" لصديقه "مم"، وبذلك يكونون هم ومن حولهم قد سيطروا على أسرته واستلموا الإمارة بدلاً منه، فما إن سمع الأمير بذلك حتى جنّ جنونه، وأقسم على منع زواج "زين" من "مم"، وهنا تبدأ مأساة العاشقين».

"بكو" الخالد بفعله المُدان، صار رمزاً لكل الأزمان، كيف لا وهو في طريقه إلى قتل "مم"، يقول "عبدي": «تمضي الأيام ولا يستطيع "مم" أن يفصح عن حبّه لـ"زين"، ويستمر "بكو" بروحه المكائدية في إفشال جميع محاولات القائدين من التقرّب من الأمير، إلى أن أتى ذاك اليوم الذي أفصح فيه "مم" عن حبّه لـ"زين" علناً وأمام الحضور، بعد أن حاول "بكو" استفزازه بكلمات نابية موجهة إلى حبيبته، وذلك عندما دعاه الأمير إلى جلسة للعب الشطرنج من يخسر فيها يلبي طلب الآخر، فخسر "مم" وما كان للأمير إلا أن يأمر بقتله، فهجم عليه 200 محارب ولكنه لم يخف بل أشهر خنجره في محاولة لصدّ المحاربين، ولكن في اللحظة الحاسمة يتدخل "تاجدين" الذي وصل إلى القصر بعدما أبلغه أحد أصدقاء "مم"، فطلب من المحاربين التريث وعدم إيذاء صديقه، ولكنه لم يستطع أن يفعل أكثر من ذلك، فطلب الأمير بسجن "مم" في أحد أكثر سجون القلعة إحكاماً».

المأساة حين يصنعها الوشاة يختم الأستاذ "محمود عبدي": «يمضي عام كامل على سجن "مم"، و"زين" تنتظر قدومه، بعدما حرّمت على نفسها جميع مظاهر السعادة، لا تخرج إلى أحد، ولا تسمح لأحد أن يزورها سوى شقيقتها، كلّ يوم يمضي تنهار "زين" أكثر، و"مم" المعذّب في سجنه، المطعون بحبّه يعاني، فلا يستجدي نصائح الناس للأمير بضرورة إنهاء معاناة الحبيبين، ولا تهديد "تاجدين" له بالحرب، إلى أن اقترب الموت من هياكلهما المتآكلة بفعل العذاب والشوق، وهنا يكتشف الأمير مدى صدق عشقهما وطهارته وسموّه، ومدى كذب الوشاة وعلى رأسهم "بكو"، فيقرر في النهاية تزويج "مم" من "زين" التي تذهب لتخبر حبيبها، ولكن بعد ماذا؟ فـ"مم" ذاك الصنديد ينهار أمام عشقه لـ"زين" ويصبح جثّة هامدة.

فيدفن بحضور "زين"، التي تسقط على تراب قبره جثة منهارة بفعل الصدمة، ليتم فتح القبر مجدداً، ولتدفن الحبيبة إلى جانب حبيبها بناءً على وصيتها، وليلتقيا في الآخرة بعدما حرما من ذلك في الحياة، وليدفن "بكو" أيضاً تحت أرجلهما بعدما قتله "تاجدين"، إيذاناً بخلود اسم العاشقين على مرّ السنين بصبرهما وبتضحيتهما، والجدير ذكره أن قبر الحبيبين لا يزال موجوداً، وأصبح مزاراً تتم زيارته من قبل الآلاف من الناس، ويقال إن الورود تزهر عليه دون تدخّل الإنسان، أما قبر "بكو" فلا ينبت فوقه إلا الأشواك».

الأديب "توفيق الحسيني" يقول فيما يتعلّق بتلك الملاحم: «لتلك الملاحم أهمية بليغة، وخاصة من ناحية تغذية الروح البشرية بالصدق، وكانت تروى لنا عندما كنا صغاراً كلّ مساء، وتعقد من أجلها الأمسيات لتحليلها، وهي ملهمة معظم القصص الأدبية، لما يتوافر فيها جمال الأسلوب وعمق الفكرة وترابط الحياكة، ومن تلك الملاحم أيضاً كانت للترفيه، ومنها كانت فعلاً لتقويم الأخلاق البشرية، وهي كثيرة حيث كانت الوسيلة الأهم لتسطير البطولات؛ في المقاومة، أو في الحبّ، أو في عمل الخير، تداولها الناس شفاهة عن طريق المعمرين، ولا يزال هناك الكثير منها لا تزال غير مكتوبة، ويتوافر في الشخص السارد لها الصدق وعمق التفكير، وحسن الرواية».

  • الصورة الرئيسية رمزية لـ"مم" و"زين"..