تجاوز عمر أبي مئة سنة عندما أصيب بالشلل الدماغي، وكان كلما عطش ينادي أمي "خديجة" يا "آمنة".. وتأتيه بالماء! سألت أمي: "من هي "آمنة"؟.. "إنها أمه يا بني". هذا ما جاء في قصة "عطش" القصيرة بعدد كلماتها الموغلة في معانيها الإنسانية، كتبها الشاعر "ناجي دلّول" وهو اليوم ضيف على موقع eSyria حيث كان اللقاء في مكان على أطراف مدينة "سلمية" بالقرب من منطقة زراعية تحولت بفضل رأس المال إلى كتل إسمنتية.

لكنه ورغم كل هذا التطور العمراني يسكن في غرفة لا يكسوها من شيء سوى أوراق، بعض رفوف، كتب، ولوحة استشراقية رسمها صديقه الشاعر "منذر الشيحاوي".

لذا فهناك ضرورة لوجوده، وهو موجود بأحاسيسه منذ أول أم في الكون، لهذا لن ينتهي

تحدث عن بداية علاقته مع الشعر فقال: «أول الأمر كتبت في النقد الأدبي والفكري، ولي عدة مقالات نشرت في هذا المجال كان أهمها نقد فكر "ابن سينا"، وكذلك نقد نظرية "الجيولوجية الحيوية" لـ "رائد النقري"، لكن بعد ذلك وجدت ضالتي تشدني نحو بحور الكلمة الشعرية، فهجرت النقد».

الشاعر "ناجي دلّول" وطموح الحواس

ولأن "قميص عازفة الكمان" لم يكتب لها النور إلا أن قصيدة "الزنبقة السوداء" كانت أولى قصائده، وعن مناسبتها قال: «كنت على علاقة حب مع صبيّة عيناها سوداوان، أثارت في لواعجي بوح الكلمات، لكنني مع مرور الزمن نسيت كلماتها، وخطأي أنني لم أحتفظ بنسخة عنها، في اتجاه آخر أبحث عن نفسي في قصيدة لم أجد غير عنوان لها "قميص عازفة الكمان" هي تؤرقني منذ عشر سنوات، وما زالت في خطة عملي، ولكنها بحاجة إلى نضج».

لكنه وكما يقول يجد متعته في قراءة أشعار الآخرين لو أنها تحدثت عن مشاعره وأحاسيسه، وفي هذا الصدد يقول: «دائماً وأبداً، ومازلت أجد متعتي في قراءة أحاسيسي من خلال ما ينطق به الآخرون من شعر».

ديواني "ناجي دلّول"

ولكنه يجد في أن رسالته من الشعر هي إبلاغ الآخرين! ويضيف: «أبلغهم أنني أعيش أحاسيس جميلة، فالحب شيء جميل، لي تجربة معه مثلما وردت في القصيدة، وغايتي من إخبارهم، أن يعيشوا جمال اللحظة، الحالة العاطفية، هذه الحالة قد يشترك فيها بيت القرية، الطفل، المرأة، وكل شيء جميل في حياتنا».

لكنه يجد في الشعر القوة التي لا ولن تنتهي من حيث المغامرة عند كل الشعوب، لأن الشعر هو الوحيد القادر على ولوج "جوانيّة" الشيء، مضيفاً: «لذا فهناك ضرورة لوجوده، وهو موجود بأحاسيسه منذ أول أم في الكون، لهذا لن ينتهي».

هذه هي "صومعته الشعرية"

فماذا كان للحب من دور في حياة "ناجي دلّول" يقول: «الحب الذي كوّن شخصيتي في طفولتي، وتلك الصبية التي أحببتها لعبت ذات الدور، أعطتني مفاتيح الكون رغم صغر سني. فقلت: "أيتها الوردة هل أنت جميلة حقاً.. كم أحب أن أراكِ جميلة.. كنت أحس أن السكون قرنفل... وفي صدرها طفولة للتين"».

يقول فيها: «ما زلت طفلاً يا "نماء" أقطف القُبَلُ من الخد».

لقد تعلم أن الحب مسألة محرمة.. والحب هو الحياة!! فوجد أن الحياة أيضاً محرمة عليه، يقول شعراً:

«من منهم يرى في فمك قرنفلة حمراء

من منهم فُركت أذناه في الحصى

كما فركت أذناي لأجلك

كيف أتجه يا "نماء" والخراب ذو خيال عبقري

ترتطم فيه عصفورة الحلم

تسقط بين قدميه

تنهرس

ويدفنها في العمق الذي يريد؟».

لهذا وجب علينا أن نعرف من هي "المرأة" في حياة "ناجي دلّول" فأتانا الجواب على لسانه فيقول: «لا فرق بين شكلي ومضموني، أتمنى لكل امرأة أن تُحَب، وتُحِب، فالإنسان خارج الحب يصبح واقعياً، مجرد إنسان له شكل معين وله أبعاد خاصة به "طول- عرض- شكل" من هنا تأتي المرأة لتكون هي كل الأشياء، والحب هو الذي يسمو فيها، وبدونه تبقى المرأة كما الرجل في إطار واقعي.. بالنسبة لي كشاعر مشروعي الأساسي هو المرأة من حيث هي تجربة جمالية، كما أنها علاقات واقعية».

لكن إن كانت المرأة تمثل جمال الكون، ماذا قدم هذا الكون تاريخياً له، ما مدى ارتباطه بالتاريخ، يقول: «ربما أجد مفارقة عجيبة غريبة، هذا ما توصلت إليه، قناعتي أن ضعفنا في العالم العربي يكمن في أمرين: "المرأة والتاريخ" فالعرب يعتبرون التاريخ مادة مقدسة له ارتباط وثيق مع الحوادث الدينية، ويتعاملون مع المرأة كما يوحى لهم من قبل رجالات الدين، ومنظري المجتمع، في حين أجدهما أي "التاريخ" و"المرأة" أعمق من ذلك بكثير وهناك ما يشير إلى ورود التاريخ في قصائدي، ففي قصيدة "مقدمات لاشتعال العنقاء" أقول:

ورثني أبواي عباءة حتفي

أذن الحياة ينهض خفيرها بيني وبينها

وآهٍ.. من خفيرها كم مدجج بالسكون

حاورته يا سيدي "القحط"

الأنوثة العارية ليست عاهرة

تشكل الطريق بندى الفكر

هل أنتِ تصوراتي... خيالاتي

أم أنا طفلك خرجت من نبضك مشتعلاً

رمز انبعاثك لغز ومسألة

والحوريات جرأة إنبات زغب النور من الرماد

وما تحتويه في أعماقك يشي بما يلوّن وجهك

شفقاً... أو حريق».

لذا يجد في الصمت انفجاراً، ويعتبر أن لا علاقة للعقل بالشعر، فالحب والشعر في لحظة البوح ليسا بحاجة إلى العقل.

أما المكان بالنسبة له فهو وكما قال: «المكان هو التربة التي تنمو بداخلها زهور مشاعري، فالمكان موجود معي أينما حللت وترحلت. لذا أبحث عن الماضي، أعيش طفولتي الشخصية، وقد تقودني هذه إلى طفولتي الإنسانية بتلقايئتها وبراءتها، رما مرد ذلك هو غياب اللحظات السعيدة، فالماضي بالنسبة لي تعويذة تبعد عني شياطين الحاضر».

سألناه عن الوطن فأجاب بكلمتين: "أغلى ما نملك"

لكن "ناجي دلّول" تحدث عن "خواء شعري" يمر به مهرجان الشعر في "سلمية" ومبرر قوله: «الشعر بشكل عام يعاني من حالة تراجع مستمرة، كذلك ذواقة الشعر بحالة عزوف عن حضور المهرجان.. ببساطة هو "الخواء الشعري" ومسؤولية إنقاذه في ذمة إدارة المركز واللجنة التي تنظم أهم مهرجان شعر في الوطن العربي».

ولذلك فإنه لا يشعر بوجود منافسة، ولا يؤمن بها، فالشاعر هو صوته بصمته، وإحساسه الخاص.

يقول الناقد "عماد أسعد" في شعر "ناجي دلّول": «التعامل مع خطاب "ناجي..." أتوخى فيه الحذر قبل المعرفة، وإن إمكانية خضوع خطابه للتحليل النفسي واستشفاف رموزه متوفرة».

أما الشاعرة "لينا أبو وضاح" فتقول فيه: «أول ما نلحظه في شعر "ناجي دلّول" هو الإلحاح على الصورة الشعرية إلى درجات الانعتاق الكلي لها، الصورة الشعرية تعتبر المرتكز الأساسي في تجربته، وهي تختصر الكثير فيما يريد الشاعر وصفه أو نقله إلينا».

الناقدة "راميت عازر" قالت في قصيدة "طموح الحواس" للشاعر "ناجي": «نرى الشاعر يغيّر، يعبث في الثابت المتغضن كعبد يقضم قيوده، ولعل أرق ما في القصيدة خاتمتها، هذا السؤال المصغر لقصيدة أخرى: ايها العاشق.. هلاّ أنجزت بحبك ما لم ينجز؟!».

والجدير ذكره أن الشاعر "ناجي دلّول" من مواليد "سلمية" في العام 1954 . أضاف للمكتبة العربية ديوانين من الشعر: "طموح الحواس" صدر في العام 1993، وديوان "جلالة الماء" صدر في العام 1997

شارك في العديد من المهرجانات داخل سورية.

أمنية "ناجي دلّول" أن يكون رساماً، لكنه لا يعرف كيف يمسك الريشة، ومع هذا فللفن التشكيلي حضور في ديوانه القادم كما يقول.

مقتطفات مما لم يشرح تفصيلاً:

ــ الماء بالنسبة له هو الحياة فاستحق أن يطلق عليه "جلالة الماء".

ــ كل حياته طموح حواس، وأهم حواسه عندما تندغم كل حواسه، عندما يشم بإصبعه، أو يسمع بأذنه.... فكان ديوانه "طموح الحواس".

• ختاماً نقدم باقة من شعر "ناجي دلّول":

«خلع النبأ نافذتي

فاستيقظت روحي يتيمة

في أي ألم أنا عندما تقتلع الجذور من تربة الروح

أي سواد ونثري في السّحر يا رياح الشمال

سُحبَ عني ما تبقى لي

من لحاف الطفولة

انطفأت جمرات موقدي

انزلق الدفء في الغياب الأكيد

وألقيتُ في هاوية من صقيع

أُقفلت أجمل العيون التي ترى كفّ الحياة

يصفع وجهي

ما الفرق يا ربُّ بين ذهابهم

وانطفاء مصباح روحي».