ليست وصيته الأخيرة بل رسالته الأولى والمستمرة، هاجس تأريخ مفردات مدينته التي يعشقها، ليقدم المعلومة الجادة المقرونة بالدليل عن مراحل قديمة لم يسلط عليها الضوء بشكل كاف، إنه الباحث "أمين قداحة" الذي التقته مدونة وطن eSyria وبتاريخ 1/10/2013 فحدثنا عن بداية اهتماماته كباحث أثار بقوله: «من خلال عملي في جمعية العاديات كنا نزور عدة أماكن أثرية ومنها متحف معرة النعمان، فلفت انتباهي لوحة فسيفسائية ضخمة موجودة في جناحه الشرقي، وكانت دهشتي عندما قرأت في لوحة التعريف الخاصة بها أنها مكتشفة في إحدى قرى مدينة "سلمية" وبالأخص قرية "أم حارتين – العلباوي" وهذا ما شكل دافعاً لي على إحصاء كل الآثار التي وجدت في هذه المنطقة، غير أنني التقيت بطالبة اجنبية في مكتبة المجلس الأعلى في "سلمية" وكانت تعد دراسة عن تاريخها وأثارها ولكنها وقفت شبه عاجزة أمام انعدام المصادر والمراجع المعنية، فكان هذا دافع آخر للبحث، ومن هنا كانت فكرة عملي البحي الجاد كمشروع مستقبلي، بدأته بكتابي "سلمية.. رسائل من التاريخ" والذي يعتبر الأول من نوعه والثاني عن مدينتي بعد كتاب "سلمية في خمسين قرناً" للراحل "محمود أمين».

استغرق إنجاز كتاب "سلمية.. رسائل من التاريخ" حوالي سبع سنوات بحسب "قداحة"، حيث اعتبره من باب رد الدين لتلك الأم "سلمية"، فجاء في قسمين يتحدث القسم الأول عن تاريخ المدينة من أقدم العصور وتحديداً من الألف الثالث قبل الميلاد وحتى يوم الجلاء العظيم، ويضيف: «القسم الثاني خصصته للحديث عن آثار المدينة ومحيطها الثابت منها، والمنقولة إلى عدد من متاحف القطر، فكانت الدراسة من حيث إحصائها وتحديد أماكن عرضها ومن ثم دراستها تاريخياً وأثرياً وحضارياً، واتبعت أسلوباً نقيضاً للمسلمات، فكل ما يكتب يكون موثقاً من عدة مصادر ومراجع».

القسم الثاني خصصته للحديث عن آثار المدينة ومحيطها الثابت منها، والمنقولة إلى عدد من متاحف القطر، فكانت الدراسة من حيث إحصائها وتحديد أماكن عرضها ومن ثم دراستها تاريخياً وأثرياً وحضارياً، واتبعت أسلوباً نقيضاً للمسلمات، فكل ما يكتب يكون موثقاً من عدة مصادر ومراجع

ما هو شائع ويتم تداوله عن مدينة "سلمية" يؤخذ من كتاب "سلمية في خمسين قرناً" للراحل "محمود أمين" ولكنه –على أهميته- غير كاف، وهذا ما أكده "قداحة" فعمل على أن يضيف عما جاء فيه ويتابع: «بحثت في أكثر من 180 مرجعاً ومنها وثائق المحكمة الشرعية ووثائق الجريدة الفرنسية، فاعتمدت التوثيق العلمي وتوسعت في سبب تسمية المدينة وتسمياتها المختلفة على مر العصور، أيضاً تاريخ قلعة شميميس ومن بناها، ومن سكان المدينة في مراحل التاريخ القديم قبل الميلاد والتاريخ المسيحي، وعلى صعيد البحث الأثري وجدت بعض القطع الأثرية القديمة والنقوش والحجارة والتي تؤكد الفترة الأموية في "سلمية" والفترة العباسية والفاطمية والعثمانية، فكان لهذه المدينة أهمية عسكرية كبيرة ودوراً هاماً في الصراعات الدولية لتميز موقعها وطريقها التجاري وقدرتها على تمويل الجيوش فمن يمتلك "سلمية" يمتلك "سورية».

الباحث أمين قداحة

ليس من السهل البحث في أرشيف يعود تاريخه لآلاف السنين قبل الميلاد، وهو ما كلف "قداحة" جهداً ميدانياً كبيراً وعملاً شاقاً ليكمل ما بدأه، فيقول: «بعد معاناة كبيرة استطعت الحصول على موافقة للتصوير داخل متاحف سورية الأثرية، فمتحف "دمشق" يملك العديد من القطع الأثرية المنقولة من مدينة "سلمية"، ولكن يشار إليها أنها من شرق "حماة" دون التنويه لمدينة "سلمية"، لهذا كان لابد من الحصول على موافقة أخرى لدخول أرشيف القطع الأثرية، كذلك بحثت في الأرشيف الوطني للمرحلتين العثمانية والفرنسية بالإضافة للمرحلة الأموية والتاريخ المسيحي، والذي كان محرضاً للبحث بالنسبة لي، وعلى الرغم من قلة المصادر والمراجع والدوريات أملك الآن كثيراً من الوثائق التي تشير لتاريخ المدينة في تلك المراحل الزمنية، هذا وقد تمت مهاجمتي من قبل بعض الأشخاص الذين اعترضوا على عملي إلا أنني أقول: من يريد أن يواجهنني فليفعل ولكن بالوثائق وليس بالكلام الشفهي العام الذي يشبه الأحاديث العامة».

لن يتوقف "قداحة" عند تأليفه لكتابه فيقول: «المشاريع القادمة كثيرة منها بحث عن اللهجة في "سلمية" وعلاقتها باللغة الآرامية والأكادية، وقد ألقيت محاضرة بالهلال الأحمر وجمعية العاديات عن هذا الموضوع، ونشرت جدولاً بالكلمات الآرامية التي مازلنا نستخدمها اليوم في لهجتنا العامية بالإضافة لعدة محاضرات بالمراكز الثقافية عن أهمية المواقع الأثرية في المدينة».

غلاف كتابه

يحاول الباحث "أمين قداحة" أن تكون مدينته "سلمية" الرابح الأكبر مما سينتجه أبناؤها عنها، فيخاطب الإنسان المعاصر بقوله: «لهذه الدراسات أهمية كبيرة، فشعب بلا تاريخ هو شعب بلا هوية، وعليكم الاطلاع على التاريخ لأن الماضي أساس المستقبل وطريق التطوير، وأنا أحب مدينتي حباً لا يوصف، ومهما عملت من أجلها لن أوفيها حقها، ولكني أترجم هذا الحب مدعوماً بالمصادر والمراجع والوثائق العربية والأجنبية».

الأستاذ "سمير جمول" والذي اطلع عن قرب على تجربة الباحث "أمين قداحة" يحدثنا عنه بالقول: «يذكرني بالمعلمين في السابق، يحب طلابه ويبحث بشكل دائم عما يحفزهم ويشجعهم، جاد في عمله فيدقق بالمعلومة التي يحصل عليها ويوثقها، اعتمد على نفسه بتحصيله الدراسي فأحب التاريخ والآثار، فأنهك بالعمل التاريخي ناسيا ً حياته الشخصية، وعلى حساب مصروفه الشخصي يجمع الكتب باستمرار فهو الآن يمتلك مكتبة لا يستهان بها ويصرف من جيبه الكثير على جمعها ليستفيد منها في أبحاثه، مبدؤه في الحياة مفاده أنه يجب على كل إنسان أن يدرس تاريخ مهنته واختصاصه منذ البدايات».

باحثاً ميدانياً

يذكر أن الباحث "أمين قداحة" من مواليد سلمية 1979، حاصل على شهادة جامعية بقسم تاريخ كلية الآداب ودبلوم آثار، ويعمل الآن مدرساً لمادة التاريخ، وهو عضو في جمعية العاديات منذ عام 2003 وعضو مجلس الإدارة فيها لدورتين ونائب رئيس الجمعية فيها.