ثمانون سنة لم تقف حائلاً بينه وبين وقوفه شامخاً، يعمل كأنه في ريعان الشباب، "أبو محمد" يعمل في "السكب" يروي تاريخه مع هذه المهنة.

مدونة وطن "eSyria" في يوم الاثنين 18/11/2013 التقت "شيخ السكّابين" -كما يحلو للصناعيين أن يصفوه- "حسين إبراهيم الدبيات".

كان زبائننا من معظم المحافظات السورية، اليوم أفتح المعمل لرش الماء على الورد، أتأمل الفرن الذي يسألني كل صباح: "شو يا أبو محمد كنّو ما في شغل؟"، وأجيب صديقي الفرن: لا حول ولا قوة إلا بالله

حدثنا بدايةً عن أولى أيامه في هذه المهنة، وقال: «من أقدم معامل السكب التي كانت موجودة في "سلمية" كان يملكها "جمال الدين الحاج" كنا في مطلع العمر، أحياناً نذهب إلى هذا المعمل للمساعدة، أو لنقل القطع مقابل أجر بسيط نعتبره "خرجية"، ثم تطور الأمر لنكون عاملين، وهنا كان معلمي "محمد إبراهيم زعير"، تعلمت على يده أصول هذه الصنعة».

الحرفي "حسين الدبيات"

وتابع: «بعد إنهاء الخدمة الإلزامية حاولت الحصول على وظيفة وأنا الذي أعاني من إصابة في الساق اليمنى، لكن لم يحالفني الحظ سوى بـ"واسطة" أدخلتني إلى معمل الغسالات في "دمشق" كان عمري حينها أربع وعشرين سنة».

وعاد "أبو محمد" ليبدأ رحلة البحث عن مكان له بالقرب من بوتقة تزيد درجة حرارتها على /1700/ مئوية، وأضاف قائلاً: «كنت أتقاضى أجراً أسبوعياً مقداره أربع ليرات سورية، يقتطع منه سبع ليرات شهرياً للتأمينات الاجتماعية، في الواقع كان الأمر في غاية الصعوبة، لذا وجدت نفسي مضطراً كي أعمل "تنكجياً" في إصلاح بوابير الكاز وتلحيم "التنك"، هذه المهنة ساعدتني في تربية أطفالي».

في العقد التاسع من عمره

وعن حبه لمهنة "السكّاب" قال: «أنا الوحيد من بين إخوتي الذي اختار الصناعة منحىً لحياته، الباقي اتجه إلى التجارة، بالتأكيد حالهم أفضل من حالي بكثير، ومع هذا فإنني أحب عملي، متعة الصناعة لا تضاهيها متعة، أن تعمل على قطعة وتنتج منها أعداداً كثيرة أمر في غاية الروعة».

ولخطورة هذه المهنة لم يشأ "أبو محمد" أن ينقلها إلى ابنه الوحيد، وله في ذلك ما يبرر، قال: «"السكب" مهنة شاقة، بحاجة إلى جهد عضلي كبير، كما أن لها شجونها ومتاعبها المحرقة، فالعامل في مواجهة دائمة مع "الفونت" المصهور، كأنك تتعامل مع حمم بركانية، يمكن في أي لحظة أن تكون عرضة للحرق، وكثيراً ما حدثت معنا».

"السكب" بين بداياته واليوم، الفارق بات كبيراً، والإنتاج في حدوده الدنيا، إن لم نقل أنها شبه متوقفة، ويكمل في هذا الصدد قائلاً: «قديماً كنا نشعل البوتقة بمساعدة "الفحم الحجري" وكان الإنتاج كبيراً يصل إلى عشرة أطنان من القطع المسكوبة، في هذه الفترة تشهد هذه المهنة ركوداً مخيفاً، إذ لم يصل إنتاجنا اليومي إلى نصف طن، وهذا ما يجعلنا نمضي أياماً عديدة نقوم بجمع "الطلبيات" كي نوقد البوتقة، وهي تتسع لنصف طن من "الفونت" المكسور الذي نصهره لإعادة تصنيعه».

وأكمل كلامه: «كان زبائننا من معظم المحافظات السورية، اليوم أفتح المعمل لرش الماء على الورد، أتأمل الفرن الذي يسألني كل صباح: "شو يا أبو محمد كنّو ما في شغل؟"، وأجيب صديقي الفرن: لا حول ولا قوة إلا بالله».

وتابع متألماً: «الارتفاع الهائل لسعر المحروقات حولنا إلى عاطلين عن العمل، أقولها صراحة، أنا اليوم ابن ثمانين سنة بالتمام والكمال، أشعر باختناق لأنني لا أعمل، وجدياً أفكر في إقفال هذا المعمل وتأجيره، أريد أن أعيش».

العمل بالنسبة لـ"أبو محمد" هو حياة، وسلامة للجسم، ووسيلة للعيش والبقاء وسد العوز، وهو أيضاً قيمة الإنسان الكبرى.

الصناعي "محمد عابدين سعد" وفي سؤالنا عن رأيه بالحرفي "حسين الدبيّات" قال: «من ينظر إلى تقاسيم وجهه الذي لم تبق حرارة البوتقة منه سوى الجلد منشوراً على العظم، إنما يشعر بعظمة وقوة وجبروت الإنسان، وكم يمنح العمل ومع طول السنين صاحبه قيمة كبيرة، وها هو اليوم يصل إلى لقب "شيخ السكّابين"، لولا إصراره وجدّه في العمل لما نال هذا اللقب».

ختاماً.. يأمل "أبو محمد" بالعودة إلى بوتقته التي منحته من حرارتها جسداً نحيلاً، لكن ما بينهما عشقاً أزلياً لا يموت إلا بموت أحدهما. وهو المولود في "سلمية" في عام /1933/ وأب لخمس بنات وولد وحيد "محمد".