هو ليس موسيقياً، لم يدرس الموسيقا ولكنه من الذين يجيدون الاستماع، الكل يعرفه من خلال الإذاعة في برنامج "هنا حمص"، هو الشاعر، والباحث، والناقد، له من الكتب ما يقارب العشرين متنوعة بين الشعر والبحث والنقد، كَتب المقالة الاجتماعية والأدبية، لكنه مهتم بشكل خاص بالتراث والفلكلور السوريين، وهو الذي يرى أننا ما زلنا نقف بعيداً عن واحد من أهم منابع الفن الأصيلة.

بالتأكيد نحن نتحدث عن الشاعر والإعلامي "عبد الكريم الناعم" الذي التقاه موقع eSyria ليحدثنا عن علاقته وتجربته الإذاعية مع الأغاني التراثية والفلكلورية، ومدى أهمية المحافظة على هذا المنتج الهام إن كان من خلال إقامة المهرجانات المختصة بذلك، أو بإيجاد آلية إعلامية تحافظ عليه من الاندثار أو التشويه، والبداية أردنا منه معرفة العلاقة التي تربطه بالموسيقا، فقال: «أنا لستُ موسيقيّاً، ولم أدرس الموسيقا، ولكنني من الذين يجيدون الاستماع، وتسحرني الموسيقا منذ أن كنت طفلاً، وبحكم النشأة، تعرّفت بداية إلى الفلكلور الغنائي الرّيفي، ولي فيه العديد من البحوث، والدراسات بعضها منشور، وبعضها لم يُنشر، فلا يوجد في سوريّة مجلّة تفسح ولو عدداً من الصفحات لمثل هذه الدراسات التي كتبتُ عنها، وفيها، أكثر من مرّة ، نحن مقصّرون تجاهها، فالفلكلور علم يدرّس في الجامعات العالميّة، وفي بعض الجامعات العربيّة، ونحن مازلنا نقف بعيداً عن واحد من أهمّ منابع الفنّ الأصيلة، الصّافية، الشاملة للّحن، والعادات، والتّقاليد، وهو عرضة الآن للزّوال لأنّه لم يُجمع كما يُؤدّى، وبعضه مات بموت أصحابه، وسيموت، مع الأسف، ما تبقّى، وفيه من الكنوز، والقيمة الفنيّة ما يعرفه الذين يعرفون قيمة تلك الجواهر».

الشخص الذي يقدم مهاراته الجسدية في الخطوة والحركة، والنقلة، وكذلك الإيماءات الجسدية

ويضيف: «لهذا أطلقت عبارة "اتقوا الله في الفلكلور" التي انتشرت بشكل واسع، وما قصدته من خلال هذه الصرخة هو المحافظة على التراث، دعمه، والبحث عن التسجيلات المدفونة في أماكن متعددة، من هنا يأتي دور الجهات المهتمة بهذا الإرث الذي يعكس بشكل أو بآخر هوية المجتمعات التي سكنت هذه الأرض منذ مئات الآلاف من السنين».

"عبد الكريم الناعم" الشاعر والإعلامي والباحث

ويطلب من الله أن يعينه على إكمال تأليف كتاب "شرفات للغناء الرّيفي والبدوي – دراسة فنيّة ، ثقافيّة اجتماعيّة"، يحدثنا عنه فيقول: «أقدم فيه نماذج عن معظم الغناء الريفي والبدوي، وسيفقد الكثير من جدواه إن لم يُطبَع مع قرص ليزري يحمل النّماذج، بطريقة أدائها، ولكنّ هذا لا يعني أنني كنت بعيداً عن أنواع الموسيقا الأخرى، فلديّ مكتبة موسيقيّة، فيها الرّيفي، والبدوي، والغناء العربي، والكلاسيك، والتركي، والكردي، ولقد كتبت عدداً من المقالات، بمناسبات شتّى، كانت كتابات رصد، لا تخلو من بعض التّحليل والتّعليل، عن مدينة "حمص"، وعن تطوّر التّلحين فيها، كما نشرت الكثير مما له علاقة بالفلكلور في عدد من الصحف والمجلاّت، وهي تحتاج لجمع، لاسيّما وأنّ معظمها منشور قبل أن يكون لديّ حاسوب، فهي تحتاج لإعادة كتابة، وأرجو أن يكون لي من الزمن ما يمكّنني من ذلك».

من هنا ننطلق إلى الجزء الثاني من اللقاء حول أهمية المهرجانات في أخذ المبادرة للمحافظة على التراث وإعادة إحيائه من جديد، فيقول في ذلك: «مما لا شك فيه يعتبر مهرجان "إدلب" من أهم المهرجانات، فهو يحافظ على تراثنا الشعبي ويوقظه مما أحيط به بحكم ضخ الفضائيات، هذا الضخ المدروس بعناية وخبث كبيرين، فقط من أجل محو أجزاء من ذاكرتنا الشعبية وإحلال ذاكرة أخرى مخطط لها أن تسيطر على العالم، هذا العالم الذي يريدونه صورة عن الفرد الذي تريده العولمة المتوحشة، فتراثنا في خطر، ومهدد بالتغييب أو بالتمويت المقصود ولو ببطء، وللأسباب ذاتها».

يتوسط الباحثين "أحمد بوبس" و"سمير الشمعة"

وبالعودة إلى فضل مثل هذه المهرجانات يقول: «لا شك أن قيمة أي المهرجان تأتي في مدى محافظته على إحياء التراث والفن الشعبي من "دبكات" و"رقصات" وكذلك "أزياء"، وما يدعو للأسف أن هذه الأمور بدأت تتعرض للتذويب والتغييب، فيلاحظ أنه وفي معظم مناطقنا الريفية قد قلّ عدد الذين يحفظون هذه الفنون التي ورثوها عن الآباء نقلاً عن الأجداد، وهذا ما يجب على المهرجانات أن تلعبه، وربما هذه المهمة من فضائل المهرجان الذي يختص بإحياء التراث والفلكلور».

وكان الشاعر "الناعم" قد شارك كعضو في لجنة تحكيم مهرجان "إدلب" للفنون الشعبية، فكان السؤال حول مدى قرب ما قدم من أعمال من خلال ما يختزن في ذاكرته من تراث، وما القاسم المشترك بين ما يقدم وحقيقة ما كان في سالف الأيام، فيجيب قائلاً: «هناك فرق شعبية قدمت التراث بشكل جيد، قدمت فناً شعبياً سليماً ومعافى، وأدخلت عليه بعض التشكيلات في الحركة، وفي ملء مساحة المسرح بما لا يخرجه عن تراثيته، والدور الذي كان يلعبه "راعي الأولة" أي "الدبيك الأول" ويسمى أحياناً بـ"اللويح"».

معد ومقدم برنامج "هنا حمص"

و"اللويح" كما يصفه "الناعم" هو: «الشخص الذي يقدم مهاراته الجسدية في الخطوة والحركة، والنقلة، وكذلك الإيماءات الجسدية».

ويضيف: «في الفن الشعبي الذي صعد خشبة المسرح باتت الفرقة كلها تلعب هذا الدور. وجاءت الإضافات لتخدم العرض والفرجة المسرحية أمام جمهور متفاعل مع النغمة والحركة المتوافقة».

وهنا يؤكد "عبد الكريم الناعم" أنه يقبل من العاملين والقائمين على الفرق الشعبية أن يدخلوا بعض التشكيلات الحركية المأخوذة من صلب التراث، وهذا بالتأكيد سيفتح آفاقاً متجددة وباستمرار.

ولكن السؤال الأهم هو كيف نحافظ على هذا التراث؟، وما هي الآلية؟، ويبدو أنها موجودة حسب رأي الباحث "الناعم" فيقول: «للمحافظة على التراث يجب تشجيع وجود فرق فنون شعبية في كل محافظة، وهناك بعض المحافظات بحاجة لأكثر من فرقة لغناها ولتنوع الثقافة الشعبية فيها، والمطلوب هو إيجاد خطة من الجهات المعنية لرفد هذه الفرق بالمحاضرات وورش العمل ذات الصلة، وإقامة دورات تدريبية للمدربين المشرفين على هذه الفرق».

ويتابع: «الأمر الآخر الذي يدعم حركة الفرق الشعبية هو إيجاد موازنة مالية خاصة بدعم هذا التوجه، فكلنا يعرف أن كثيراً من هذه الفرق إن لم تكن جميعها تنفق من جيبها على عمل ما، ودافعهم للاستمرار هو حبهم لفنهم ولتراثهم».

ومن المقترحات التي يؤكد على ضرورة توفرها هو إحداث كليّة خاصة بتدريس الفلكلور، ويضيف: «هذا أمر سبقتنا إليه العديد من الجامعات في أقطار عربية شقيقة، وهذه واحدة من الصرخات التي أطلقتها في أكثر من مقال بهذا الشأن».

لكننا شاهدنا تكراراً في بعض المواضيع ولنأخذ "العرس" مثلاً، فيقول: «بالرغم مما نراه من تكرار لكنه يحتفظ بقيمة هامة وهو المحافظة على هذا الموروث والاستفادة منه أهم بكثير من الحديث عن وجود تكرار في طرح المواضيع، أضف إلى ذلك أن الفنون الشعبية تملك الكثير من المفردات التي لم يتطرق إليها أحد كأغاني "الحصاد"، و"جرش البرغل"، و"العونة"، و"الختان"، و"ختم القرآن" وما شابه ذلك».

ولكونه شاعراً سألنا "الناعم" إن كان للتراث نصيب في كتابته، فقال: «لقد كتبت شيئاً من الشعر الشعبي، إضافة إلى الشعر الفصيح، ولي العديد من الأغنيات في أرشيف الإذاعة السورية، كما أن لي تجربة في كتابة "العتابا" حتى أنني أرتجلها ارتجالاً، كذلك فإنني كتبت القصيدة البدوية وجمعت ما بقي منها في كتاب أسميته "الحزن والناي"».

وبناء على طلب موقع eSyria قدم لنا الشاعر "عبد الكريم الناعم" نموذجاً من "العتابا" فيقول: «لَوَنْ وَنْ الحزن/ ما ذيبني وَنّه/ وَنّة غريب الأهل/ ما يسألوا عَنّهْ/ وابكي وهلّ الدمع/ ويصير دمعي شمع/ من نار قلباً تِلفْ/ لَوَنْ وَنْ الحزن وَنّهْ».

وننتقل للحديث عن تجربة "عبد الكريم الناعم" في الإذاعة، وكيف بنى علاقته مع الموسيقا خاصة منها ذات الطابع الشعبي، فيقول: «من خلال برنامج "هنا حمص" الذي استمر بثه لثمانية عشر عاماً وستة أشهر حرصت على أن أقدم في كل حلقة من حلقاته اليومية شيئاً من فلكلور وعادات وتقاليد محافظتي "حمص" و"حماة" وكنت أركز على التسجيلات القديمة، وأشرطة الكاسيت لمطربين شعبيين، وأعتقد أن هذه الفقرة بالتحديد أعطت لهذا البرنامج ميزة ومتابعة خاصة من جمهور الإذاعة، لكن في السنتين الأخيرتين بدأت أشعر بالمحاصرة حول هذا البرنامج، حتى طـُلب مني في الإذاعة السورية أن أوقف الأغاني الشعبية بحجة أنها ذات طابع حزين، ويجب أن نبث الأغاني المسجلة في الإذاعة السورية حصراً، وبهذا القرار عرفت جيداً أن البرنامج قد فقد الكثير من متابعيه على امتداد المحافظتين».

ويتابع حديثه حول الأصوات التي كان يقدمها، فيقول: «في الواقع كنت أعمل وبشكل متواصل لكي أقدم الأصوات النادرة، والتسجيلات القديمة، وفي مكتبتي الموسيقية الكثير من هذه التسجيلات».

ومن الأعمال الأخرى التي قدمها للإذاعة تمثيليتان إذاعيتان، الأولى بواقع خمس عشرة حلقة، أما الثانية فهي مؤلفة من سبع حلقات.

وبقرار من وزارة الإعلام بوقف برامج المتقاعدين تخلى "عبد الكريم الناعم" عن برنامجه الذي تحول اسمه إلى "آفاق" في آخر سنتين، وليتفرغ لهواياته التي ابتعد عنها كثيراً بفعل النشاط اليومي في الإذاعة، مسيرة امتدت خمسة وخمسين عاماً، وهنا يقول: «لقد قدم لي هذا القرار فضاءات من الراحة ما كنت لأنعم بها مطلقاً، ولا أخفي أنه طلب مني تقديم طلب للاستئناف لمتابعة العمل الإذاعي، لكنني اعتذرت».

الجدير ذكره أن الشاعر "عبد الكريم الناعم" هو من محافظة "حماة" من قرية "حربنفسه" مواليد عام 1935

عضو جمعية الشعر، ومقدم برنامج "هنا حمص" على أثير إذاعة صوت الشعب، وله العديد من المؤلفات الشعرية والبحثية.