في عام 1922م وفي "سلمية" تحديداً ولد الشاعر "سليمان عواد"، فيها تلقى تعليمه، وبعدها تابع في "الكلية الأرثوذكسية" في مدينة "حمص" بعد ذلك التحق بـ"الجامعة اليسوعية" لعام واحد درس فيها منهاج "العلوم السياسية" ليكمل موظفاً في دائرة الحراج في وزارة الزراعة، ومن ثم معيداً في كلية الزراعة في منطقة "خرابو" في "ريف دمشق"، ثم تعرض للفصل من عمله لأسباب سياسية، وأعيد إلى العمل الوظيفي في دائرة رقابة الكتب في وزارة الإعلام حتى ترك الوظيفة ليتفرغ للحياة البوهيمية، والشعر، والترجمة عن اللغة الفرنسية...

موقع eSyria يلقي الضوء على مسيرة شاعر كبير رحل منذ زمن بعيد غير أنه حضر في الدورة الثالثة والعشرين من مهرجان الشعر في "سلمية" كمكرم محتفى به.

ممن تشكين أيتها المرأة؟؟ مما تشكين وأنت العالم واحتواؤه؟؟

في قصيدة له يقول: «أشعر الآن/ كأن شبكة من العيون الحاقدة/ تحيط كالحيوانات المخيفة... بقلبي وذهني/ وأحسُّ أنَّ الشمس والعالم بكلِّ ضوضائه/ خشبة ضخمة نخرها سوس العدم/ تنطرح بكلِّ ما للعالم من ثقل وسماجة/ في بحيرة عزلتي الرهيبة عن العالم/ آه.. ما أتفه الشمس التي تطلع على تلك العيون الحاقدة/ الأسى العميق عصر نفسي عصراً موجعاً».

تقول فيه الأديبة "ندى عادلة" وهي التي التقت به فترك في نفسها الشيء الكثير، فكان قيصر الحقول الأبدية، وأمير الشتاء، قيثارة الأغنية الزرقاء في قاع المحيط، هو قاموس اللغة التي حررت ذاتها، وتضيف: «كان أميراً للظلام في ليل "سمر نار" العاشقة التي ذابت على شفتيه منذ خلق إلى أن اندثر جسده على أجنحة غيمة العشق البوهيمي الساحر، يشبه مدينتي بأحلامه الطوباوية».

وتروي حادثة ما بينهما حيث التقته في يوم شتائي البكاء، فسألها "سليمان عواد": «ممن تشكين أيتها المرأة؟؟ مما تشكين وأنت العالم واحتواؤه؟؟». فأجابته بخوف الأنثى في مزرعة الضباع: «لقد اغتالتني أعاصير السماء التي وضعت رحالي فيها، وها أنا أمضغ الصمت، وأطحن الهواء مع الوقت، وأتقيأ الألم، أنا المرأة الخائبة الخاسرة التي تحمل انتصاراتكم وبطولاتكم، أنا المرأة المفتوحة على كل الشرائع والأبعاد الخاوية كمياه "سلمية" وآبار الصحراء في حرِّ تموز وآب، إذا تمنيتم عليَّ أن أغير جلدي كأفعى الصحراء، فحري بكم أن تحركوا صمتي فلا.. لا... تغتالوه أيها الشاعر الهفهاف، أنا زرقاء اليمامة أشاهدكم عبر آلاف الأميال، أنا سندريلا المهملة في الزوايا والمنعطفات، أنا "ولاَّدة" و"ليلى" التي تحب جدتها وخالتها وعمتها وتعشق الجيران، أنا بائعة الكبريت تحت المطر، أبحث- أيها الشاعر- عن جنية تعيد إليّ شتات عقلي وفكري، أبحث عن نفسي؟؟!!».

يقول لها "سليمان عواد" وهو الشاعر الذي لمّا ينتظر أن تتحرك في مخيلته كلمات العبور: «عودي أيتها المرأة الخارجة من رحم العالم، عودي إلى الأغنية الزرقاء.. وحقول الأبدية و"سمر نار"، غني مع الفقراء تحت ضوء الشمس أناشيد العاصفة، ولا تنحني أمام المصاعب والأهواء».

من مكان آخر التقينا الشاعر "بشار عيسى" الذي اتخذ من شعر "سليمان عواد" مشروعاً له، وأكد ضرورة تسليط الضوء على تجربة "سليمان عواد" فكان أن اتخذه مكرماً وعنواناً لانطلاقة "الموقد الثقافي" الذي لم يكتب له الاستمرارية، وهو يقول: «أعتقد أن "سليمان عواد" هو الشرارة الأولى التي اندلعت في "المشهد الشعري السوري" أوائل أربعينيات القرن الماضي، لكن هذه الشرارة هو ذاته "سليمان عواد" لم يظن أنها ستكون مشروعاً متكاملاً للمشهد الشعري منذ ذلك الوقت وحتى بدايات القرن الحالي، فحسبما قال لي الكبير "محمد الماغوط" إن "سليمان عواد" كان يقوم بترجمة الشعر الغربي ونقله إلينا، طالباً منا محاكاة هذه التجربة الجديدة، وهو بذاته قام بهذه المحاكاة، لقد وجدنا- والكلام للماغوط- ضالتنا المنشودة في هذا الشكل الفني الجديد الأثر».

ويتابع الشاعر "بشار عيسى": «لقد اعترف "الماغوط" بأن "سليمان عواد" قد سبقهم إلى هذا الشكل من الكتابة بحماسته وبساطته المألوفتين، لنأتي بعده ونخط ما خطّته الشرارة الأولى».

من هنا تأتي أهمية "سليمان عواد" كمهندس لقصيدة النثر التي يعتدي الكثير، الكثير منا عليها، فلا بد من قراءة "سليمان عواد" قراءة حقيقية.

يقول "سليمان عواد" في قصيدة له:

«إن قلبي كتاب مضطرب العبارات/ ضبابي المعنى/ الرؤى الصور/ متناقض الخواطر والأفكار/ إن قلبي كتاب حياتي الفوضوية المشعثة/ كقصائد بوهيمية/ يصوغها شاعر من عالم التشرد والاضطراب».

وفي دراسة كتبتها الأديبة "ندى عادلة" تؤكد فيها أن قصيدة النثر عند "سليمان عواد" تمتلك موسيقا خاصة بها لا تخضع للقديم من الشعر، ولكنها تستجيب لإيقاع حي يتجدد، وتضيف: «لقد تحررت قصيدة النثر عند الشاعر "سليمان عواد" من وحدة البيت إلى وحدة الفكرة، وحرر اللغة من عوائقها، رفض القيود الحريرية الجاهزة، وانطلق لأغنية الطبيعة التي يتردد صداها في كياننا لتخرج قصيدة كالنهر المتدفق، وليشق مجراه بخطورة، وحرية، وشفافية».

وتؤكد أن "سليمان عواد" لم يهرب من قصيدة الوزن إلى قصيدة النثر، بل آمن بحتمية الإنسان الحر من كل أسمال الماضي المهلهلة، وتابعت: «لذا كانت قصيدة النثر خياره الأولي والنهائي، فاختار أن يكون مع "بودلير" و"ويتمان" و"رامبو"، و"مالارميه" ليخلق، كما فعلوا، لغة شعرية جديدة متطورة، إيقاعها إيقاع إنساني ووجداني، يعبر عن كوامن النفس البشرية دون تعقيد أو تقييد، لتصبح الجملة عنده عالماً صغيراً مبنياً من كلمات تأخذ معناها من موقعها، الذي يؤطره التضاد المفاجئ للحلم والرؤيا، فتشكل فرحاً وألماً ومشاعر تهتدي إلى مرساها كلمات من عبقرية».

يقول "سليمان عواد":

«ما أقسى أن نكون وحيدين كالذئاب الجائعة

في بلاد الجهل، الرمل، والغبار

ما أقسى التربة التي تدفن أزهار العبقرية

وهي في ذروة النضج والاستشراق

وما أقسى الوطن الذي يدفن

الطفل الملاك... وهو في مهده».

ترك "سليمان عواد" مدينته "سلمية" في عام 1952، لم يزرها ثانية إلا بعد ثلاثين عاماً رغم أنها كانت تسكنه وكان يسكنها، والمرة الثانية التي زارها فيها، أتى وحيداً مع بعض الأصدقاء وبعض الأهل في يوم الثامن عشر من شهر كانون الثاني للعام 1984، ليرقد جسده على بساط عشبها المملوء بالغبار والغربان، ولتبقى روحه ترفرف قصائد من تشرّد وعشق وعيش كما تشتهي.. شعراً رائداً لقصيدة النثر.. التي ظلَّ وفياً لعشقها منذ عرفها وحتى الساعة، فهي القصيدة التي تعشق شاعرها ومتلقيها حتى لو تجاهلتها أقلام النقاد وسواها.

فهل كان الاحتفاء بهذا الشاعر رداً لبعض الدين الذي يدينون له به، بالطبع لا.. فابن الأرض من لذة العشق يولد، ولمرتع الرماد يعود سعيداً، حزيناً، غير آبهٍ إلا بكلمة واحدة نطق بها طوال حياته.. "سلمية".

* له عدة دواوين هي:

ــ "سمر نار"، "شتاء" في العام 1957

ــ "أغانٍ بوهيمية" في العام 1960

ــ "حقول الأبدية" في العام 1978

ــ "أغاني لزهرة اللوتس" في العام 1979

ــ "الأغنية الزرقاء الأبدية" وقد صدر بعد وفاته عام /1986/

* من الكتب التي ترجمها:

ــ "شعراء من رومانيا"

ــ "ذئب البحر"

و له رواية مسرحية بعنوان "من همجستان"

إضافة لكتب ومقالات كثيرة مترجمة وسياسية.

  • يقول في آخر قصيدة نشرها قبيل رحيله، وهي قصيدة "غيوم من رصاص":
  • ــ 1 ــ

    بعض الكتاب

    يصوبون بنادقهم

    نحو البلابل الرومانسية

    لأنهم يكرهون غناء البلابل الأخضر

    ويحبون نعيق الغربان

    آه.. يا بنادق الواقعية المتوحشة

    ماذا يكون مصير الحدائق والبساتين

    إذا انقرضت البلابل... وسادت الغربان؟؟!!

    ــ 2 ــ

    القمر يشرق منذ آلاف السنين

    فكم شاهد من ناس

    وخبر من حضارات

    وكم خبأ في صدره

    من أسرار وعبر

    القمر يشرق

    أيتها الأمواج أنت شاعرة

    وأنا.. شاعر

    لقد جمعتنا الأيام لفترة قصيرة

    العالم كبير وواسع

    ومع ذلك

    فإنه لا يتسع لروح شاعر.