تدهش الناظرين بسحرها الأخاذ من قمة الهضبة التي تعلوها؛ أشجار نخيلٍ باسقة وحقولٌ خضراء تجاور بيوتاً طينية، ثم العظيم بهدوئهِ نهر "الفرات"، لوحةٌ فنية باهرة صمّمتها الطبيعة وتبنّاها الإنسان بوفاء. تلك هي بلدة "الصالحية" التي ما تزال حبات ترابها تتألم من ذكريات الماضي المرير تحت وطأة نعال أحصنة "الفرس" و"الرومان" الذين رووها بالدماء دون هوادة وهم في طريقهم للظفر بـ"دورا أوروبوس".*

تلك الأرض القاحلة الجرداء باتت اليوم مقصداً للكثير من المتنزهين أيام الربيع وأصبحت معطاءة تمنح خيراتها لكل فلاحٍ ضرب معولاً أو رمى غرساً على جسدها وسقاها من "الفرات"؛ لكن أين تقع هذه البلدة؛ وكم من البشر يسكنونها؛ وما مساحتها؛ وهل هي بلدةٌ تستأهل الذكر بالفعل؟ استفساراتٌ عديدة أجاب عنها رئيس مجلس البلدة السيد "بندر هاشم الصالح" عندما تحدث لموقع eSyria قائلاً: «تقع بلدة "الصالحية" على الضفة اليمنى لنهر "الفرات" على بُعد /90/كم عن محافظة "دير الزور" باتجاه الطريق المؤدي إلى مدينة "البوكمال" والتي تبعد عن الأخيرة مسافة /40/كم تبلغ مساحتها /4000/ هكتار ويبلغ عدد سكانها نحو /18/ ألف نسمة، يعمل معظمهم بالزراعة وتربية المواشي التي يصل عددها من الأغنام قرابة /15/ ألف رأس ومن الماعز نحو /220/ رأسا ومن البقر /3/ آلاف رأس».

يتصف سكان الريف بشكلٍ عام بسماتٍ تُميّزهم عن سكان المجتمعات في المدن الكبرى؛ وأهم ما نحافظ عليه وورثناه من أجدادنا نحن سكان البلدة الكرم والشهامة ومد يد العون للمستغيث والشجاعة وعدم الخروج عن رأي كبير العشيرة "الشيخ" وحل الخلافات عشائرياً ما أمكن ذلك

ويضيف "الصالح" قائلاً: «أُحْدِث المجلس البلدي عام /1991/م ويوجد في البلدة خمس مدارس للتعليم الأساسي وثانوية واحدة، ومركزاً صحياً يخدّم القرية، ومقسماً للهاتف الآلي ومحطة تصفية لمياه الشرب؛ بالإضافة إلى مخفر للشرطة ووحدة إرشادية وجمعية زراعية، كما توجد عدة حوايج** تحتوي على شجر الصفصاف والحور، وعدا عن كل ذلك فهي تحتضن أهم معلم تاريخي وأثري وهو موقع "دورا أوروبوس"».

"الفرات" وفي العمق ترقد بلدة "الصالحية"

أما عن المشاريع المُنفذة والمشاريع قيد التنفيذ؛ فقال: «هناك مشروع صرف صحي نُفذ على ست مراحل والمرحلة السابعة قيد الدراسة ومن ثم الإعلان والتنفيذ؛ فما هو منفذ الآن هو بنسبة 70%، بالإضافة إلى الانتهاء تقريباً من تنفيذ المرحلة الأولى لمشروع رصيف وحجر رديف أما المرحلة الثانية فهي قيد الإعلان. هناك مشروع تزفيت للشارع المؤدي إلى البلدية بطول /1300/م قيد الإعلان؛ ومشروع بانوراما لمدخل الآثار قيد الدراسة».

وطرح "الصالح" مشكلة يعاني منها المزارعون في البلدة؛ حيث قال: «هنالك مشكلة يعاني منها الفلاحون ووقفت ضد مصالحهم وهو ارتفاع سعر المازوت للدونم الواحد ويبلغ /6000/ ليرة خلال الموسم الواحد يدفعها الفلاح للجمعية ما ينعكس سلباً على أوضاع الفلاح والزراعة في آنٍ واحد ونتيجة هذه المشكلة خرجت مساحات واسعة من الاستثمار وباتت أراضي بور».

الحقول الخضراء في البلدة

وعن أصل وسبب تسمية البلدة بهذا الاسم؛ فقد جاء في كتاب "مدينة البوكمال" للباحث التاريخي الأستاذ "حميد سيد رمضان" ما يلي: «كلمة "الصالحية" هي تسمية جاءت من "قبة الأربعين صحابي" الموجودة في أعلى الهضبة التي تعلو البلدة؛ حيث دُفِنَ فيها أربعون صحابياً إما أثناء مرور القائد الإسلامي "خالد بن الوليد" (ر) بعد تأديب العصاة في جبل "البُشري" عام /12/هـ، أو في زمن مرور "الإمام علي بن أبي طالب" (ر) عند ذهابه إلى "صفين" أو عند عودته منها، فتسمية "الصالحية" جاءت من صلاح هؤلاء، وما زالت هذه "القبة" حتى الآن موجودة ومهددة بالانهيار في كل لحظة يزورها سكان المنطقة».

الحاج "عواد الجراد" من سكان البلدة يبلغ من العمر /65/ عاماً، تحدث بإيجاز عن صفات أهالي البلدة والتي هي بالأساس عادات وتقاليد توارثوها من أجدادهم ولا يزالون يحافظون عليها، قائلاً: «يتصف سكان الريف بشكلٍ عام بسماتٍ تُميّزهم عن سكان المجتمعات في المدن الكبرى؛ وأهم ما نحافظ عليه وورثناه من أجدادنا نحن سكان البلدة الكرم والشهامة ومد يد العون للمستغيث والشجاعة وعدم الخروج عن رأي كبير العشيرة "الشيخ" وحل الخلافات عشائرياً ما أمكن ذلك».

الباب الجنوبي لآثار "دورا أوروبوس"

أما عن دور المُغتربين من أبناء البلدة في تطوير بلدتهم؛ فتحدث المغترب في دولة الكويت الشاب "أحمد عواد الجراد" من سكان البلدة، فقال: «ربما أنا واحدٌ من مئات الشباب المُغتربين عن أهلهم وذويهم؛ لكن مهما يكن طبيعة العمل الذي نقوم بتأديته في الاغتراب إلا أن العائد المادي يساهم بشكلٍ أو بآخر في تحسين ظروف عوائلنا المعيشية، كما أن معظم المُغتربين من البلدة يقومون بتطوير مسكنهم وتحويلها إلى بيوتٍ حديثة من الإسمنت؛ ويُنفقون أموالهم في خدمة الزراعة وذلك بتطوير طرق الري واستصلاح الأراضي الجرداء».

الحاج "صالح الفهد" أحد مُعمّري البلدة يبلغ من العمر نحو عشرة عقود تحدث عن البطولات التي قام بها أبناء البلدة زمن الاحتلال الفرنسي؛ قائلاً: «عند وجود الفرنسيين في مدينة "البوكمال" وريفها زمن الاحتلال؛ كانت هناك دائماً مقاومة شعبية ومنها المعركة التي نشبت في بلدة "الجلاء" عندما اشتبك الثوار مع الفرنسيين الذين طوّقوا البلدة بالجنود؛ فما كان من أبناء "الصالحية" إلا نجدة إخوانهم وفك الحصار عنهم بعد أن قتلوا عدداً من الجنود الفرنسيين ورموا بجثثهم في نهر "الفرات" وقد برز يومها اسم الشيخ "فارس الصيّاح" و"كسار الصيّاح" كأحد أبطال تلك المعركة».

هوامش:

  • دورا أوروبوس: من الآثار الهامة في المحافظة؛ تطل على بلدة "الصالحية" بجرف عال يصل ارتفاعه إلى /60/م حكمها الفرس ثم الرومان سنة /163/م.
  • ** الحوايج: ومفردها الحويجة وهي عبارة عن جزيرة تقع في وسط النهر مزروعة بأشجار وأعشاب كثيفة.