لم يكن رحيل الشاعر "محمد بشير العاني" عادياً، كما هي حياته التي قضاها في مدينته "دير الزور"، على مقربة من نهر "الفرات"، فثمن الحرية كان كبيراً، ولا يحدث إلا لأولئك التواقين إليها، والعاشقين للموت في سبيلها.

مدونة وطن "eSyria" تواصلت بتاريخ 11 آذار 2016، عبر الهاتف مع الكاتب الصحفي "خليل صويلح"؛ الذي تحدث عن مقتطفات من حياة الشاعر "محمد بشير العاني" وأهم محطاته الأدبية، ويقول: «لم يغادر "بشير العاني" المولود عام 1960 مدينته "دير الزور"، أراد أن يحرس قبر رفيقة دربه بعد صراعها الطويل مع المرض العضال، بقي على مقربة من "الفرات" غير عابئ بحصار التكفيريين لمدينته، إلى أن وقع بين أيديهم، فكانت التهمة جاهزة بالنسبة إلى شاعر شيوعي وهي "الرّدة".

هكذا مضى "حوذيّ الجهات" إلى جهته الأخيرة، "بشير العاني" أجمل الشعراء، وأكثرهم نبلاً ودماثة بضحكته الساطعة كقمر نيسان، وبصوته الدافئ كدمعة المجدلية، تعانقنا لأول مرة قبل أعوام طويلة في "بيت القصيد" في "دمشق"، ولم نكن قد التقينا من قبل، حيث قال لي: «يا "تمّام" دوّختني في منزلك المزدحم بالغائبين

اقتادوه صباح يوم الخميس الواقع في 10 آذار 2016 مع ابنه البكر "إياس" إلى ساحة الإعدام.

الصحفي فراس القاضي

وكان الراحل قد أصدر ثلاث مجموعات شعرية، هي: "رماد السيرة" الصادرة عام 1993، و"وردة الفضيحة" الصادرة عام 1994، و"حوذي الجهات" الصادرة عام 1995.

وقد تميّز شعره بنبرة غنائية تحمل وجع "الفرات" و"عتابا" الصحراء وبلاغة الضّد، وكان آخر ما كتبه قصيدة بعنوان: "تغريبة الخاسر"، جاء فيها: «لهكذا حزن أسرجتني أمي.. يا عكازَ وقتي الكفيف.. ويا مقاعدي على أرصفةِ التعبِ الطويل.. ها أنا.. أنا العاثرُ بجماجم اتزاني.. الشاغرُ إلا منكِ.. أبحث عن صرّةٍ لملمتِ فيها أوجهي التي انسربت.. لملمتِ فيها براءتي.. خسائري.. أنا الذي قايض الطمأنينة بالهزائم».

في إحدى أمسيات الراحل

الشاعر "تمام تلاوي" عبر عن حزنه الشديد وألمه لرحيل شهيد الشعر والكلمة "بشير العاني" بكلمات تلخص العلاقة التي جمعته معه سابقاً، ولقاءهما الأول، ويقول: «هكذا مضى "حوذيّ الجهات" إلى جهته الأخيرة، "بشير العاني" أجمل الشعراء، وأكثرهم نبلاً ودماثة بضحكته الساطعة كقمر نيسان، وبصوته الدافئ كدمعة المجدلية، تعانقنا لأول مرة قبل أعوام طويلة في "بيت القصيد" في "دمشق"، ولم نكن قد التقينا من قبل، حيث قال لي: «يا "تمّام" دوّختني في منزلك المزدحم بالغائبين»، وقلت له: «ضيعتني في جهاتك يا حوذيّ الجهات»، كان يضحك كغيمة، ويرفع كأسه فيسقط المطر.

لم يتقن يوماً سوى الغناء بصوت عالٍ وقت الغروب، حوذيّاً يقود حصانه الراكض في حقول القمح، صوب وجهته الأخيرة».

الزميل الصحفي "فراس القاضي" ابن مدينة "دير الزور" وأحد المقربين منه، تحدث عن حياته الشخصية، ويقول: «كل أصدقاء "بشير العاني" والمقربين منه، يعرفون أنك إذا لم تكن مستعداً للحديث لساعات والاستماع لساعات، فلا تدخل بنقاش معه، فالنقاش لا ينتهي بسهولة، وقد يكمله على الهاتف بعد أن تنتهي الجلسة.

هكذا هو، مملوء بالمعرفة، ولم يكن ضنيناً بما يملكه، بل على العكس تماماً، فهو يرى أن من واجبه التبشير بما يملكه من معرفة، فكان له نصيب كبير من اسمه، كان بالفعل بشيراً.

هو صديق الجميع، والحريص على إبقاء خيوط الود، أو أقله علاقة طبيعية حتى مع من لا يتفق معهم حول موضوع معين أو حتى حول كل المواضيع، وكان دمثاً ومرحاً، وله نَفَسٌ ساخرٌ واضح، استعمله كثيراً في مقالاته الصحفية، وخاصة في جريدة "الخبر" عندما كان مديراً لمكتبها في "دير الزور" منذ افتتاحها، وحتى إغلاقها عام 2012.

في الصحافة، كان صحفياً شرساً، ومقاتلاً لا يخشى نتائج ما يكشفه ويقوله، وكان في الوقت نفسه، يتوخى الدقة الشديدة فيما يقوله ويكتبه، فغايته النهائية كانت نقل الحقيقة وتقديم قيمة مضافة، إن كان عبر وسائل الإعلام التي عمل فيها، أو في حياته الخاصة على صعيد الأسرة والأصدقاء».

ويضيف: «صداقات "بشير" تجاوزت حدود محافظة "دير الزور"، فله الكثير منها في كل مكان من "سورية"، ولا دليل أقوى من الحزن الكبير الذي أصاب عدداً غير قليل من السوريين بمختلف انتماءاتهم وأطيافهم الفكرية والسياسية عندما انتشر خبر وفاته وابنه البكر "إياس".

فدواوينه منتشرة بين أصدقائه، ولم تُقم أمسية أو مهرجان شعري في أي مكان في "سورية"، إلا وكانت بطاقة دعوى "بشير العاني" جاهزة، كذلك، كان من أوائل -إن لم نقل أول صحفي- يتم التواصل معه من قبل وسائل الإعلام الجديدة التي تريد مراسلاً في "دير الزور"، فقد بنى علاقاته وصداقاته بجدارة عمله وفكره واسمه.

كانت حياته الأسرية متوازنة جداً، وكان محباً لزوجته وأولاده الثلاثة، "إياس" 19 عاماً، و"إيمار" 17 عاماً، و"لونار" 14 عاماً، وأثر فيه جداً رحيل زوجته "أماني" بمرض عضال منذ حوالي العام، وتحوّل إلى أب وأم، رعى أولاده من دون تقصير، وخاصة في الفترة التي قضوها في حصار "دير الزور"، حين عزّ الطعام والشراب على الجميع، واضطر عدد كبير من أبناء المدينة إلى الهروب من "دير الزور"».