حارات دمشقية، تحنو على بعضها بعضاً، ومعالمها المتشابهة تشعرك بأن المكان واحد رغم اختلاف تسميات تلك الأزقة القديمة، فبين "القساطلية" و"مئذنة الشحم" تلال شامية تعبق بأصالة التاريخ؛ ما حذا بأهالي "دمشق" إلى تسميتها "الهند الصغيرة".

مدونة وطن "eSyria" وبتاريخ 28 آب 2014، زارت حي "مئذنة الشحم"، والتقت أحد معمري الحي؛ السيد "مصطفى بدير"؛ حيث قال: «يقع حي "القنوات" في قلب المدينة القديمة، ويعود نشوء هذه المنطقة إلى النصف الثاني من القرن الرابع عشر خلال العهد المملوكي، وسميت بهذه التسمية نسبة إلى وجود قبة يباع تحتها الشحم، نظراً لكونها مركز المدينة كان يقصدها القاصي والداني في ذلك العهد، ويعد الحي جزءاً من "القيمرية"؛ المنطقة الأكبر في "دمشق" القديمة، التي تضم "حي الأمين، باب توما، باب شرقي، طالع الفضة، مكتب عنبر، سفل التلة، النوفرة والكلاسة"، وتلتصق "مئذنة الشحم" بمناطق مجاورة لها، فمن "دخلة ناصيف باشا" مروراً بـ"تلة السماكة" و"تلة النجارين" و"حارة الناصري" انتهاءً بـ"القساطلية"، جميعها أحياء تشبه بعضها بعضاً.

يقع المقهى في "تلة السماكة"، وقد تم بناؤه منذ مئة وخمس وعشرين سنة، ومن أقدم المقاهي الشعبية في "دمشق"، وهو ما زال محافظاً على كثير من هيئته التاريخية، ومقصداً لأهالي الحي

يحد الحي من الشمال "الكلاسة"، ومن الجنوب منطقة "الشاغور"، ومن الشرق "باب شرقي"، ومن الغرب "سوق الحميدية" و"باب الجابية"».

مصطفى بدير

أما عن الحياة الاجتماعية في الحي؛ فيكمل "بدير": «سكن "مئذنة الشحم" منذ قديم الزمان عائلات دمشقية، أنجبت شخصيات لها مكانتها التاريخية، مثل آل "عربي كاتبي"، "فهمي الصواف" وأولاده، كذلك عائلة "شكري القوتلي"، عائلة "جميل الألشي"، منزل آل "القباني" الذي كان يملكه "توفيق القباني" والد الشاعر "نزار قباني"، قبل أن يصبح ملكاً لآل "نظام"، وعائلة "جميل مردم بيك"، ومنزل "ناصيف باشا" الذي يسمى حالياً "بيت نظام"، إضافة إلى منزل "مصطفى القباقيبي" وآل "اللحام"؛ حيث قضى الفنان "دريد اللحام" أولى مراحل حياته، ومنزل الشيخ "عطا الكسم" وبيت "الأرناؤوط"، وبيت "البوارشي" و"جواد بيك العظم"، وبيت "الحلاق"، إلا أن معظم أبناء هذه العائلات اليوم قد انتقلوا إلى مناطق أخرى، وبشكل عام فإن الحي كباقي أحياء "دمشق" فيه من الطبقات الفقيرة والوسطى والغنية، جميعها كانت ضمن نسيج اجتماعي متكامل، عكس هذا النسيج صورة أصيلة عن التكافل الاجتماعي الحقيقي ضمن الحي، والتعاطف الحاصل بين تلك الطبقات وصل إلى مستوى كبير من الألفة، إلى درجة أن العائلات الغنية كانت تشتري من محلات الفقراء ما تبقى من بضاعتهم اليومية، على الرغم من وضع هذه البضاعة المتبقية إلى آخر اليوم، وروح الأخوة هذه التي كانت تطفو على سكان الحي بوجهائه، هي نفسها كانت تساهم في حل الخلافات إن حصلت بشكل أهلي، وبتدخل من "جاهات" الحي، وعلى الرغم من تغير الزمان والسكان، إلا أن هذا النسيج بقي محتفظاً بما عهده حتى يومنا هذا.

يغلب على المنطقة النمط العربي في البيوت، وأغلب هذه البيوت فاخرة البناء حتى يومنا هذا، إضافة إلى الدكاكين التي بنيت على الطراز الدمشقي القديم، وبقيت المنطقة محافظة على تاريخها العمراني حتى الآن، مثل منزل "الكسمي" الذي أصبح "المعهد السياحي"، وبيت "أحمد بيك السباعي"، وجميع البيوت التي ذكرتها ممتدة بين "مئذنة الشحم" وحارة "ناصيف باشا"».

صورة للحي من غوغل إيرث

وتابع متحدثاً عن تاريخ المنطقة وما حولها: «من بقايا الأثرية تلك المئذنة التي تعلو المنطقة، حيث إنها من بقايا "السور الآرامي" أول وأقدم أسوار "دمشق"، دليل على أن المدينة القديمة "دمشق" لم يتجاوز قطرها الخمسمئة متر فقط، ومن المحتمل أن تكون هذه المئذنة منارة فوق السور لكشف الضيوف أو الغزوات في سابق الأزمان، حيث إنك تلاحظ وجود مئذنة مشابهة لها عند منطقة "طالع الفضة"، وكذلك مئذنة ثالثة عند "باب شرقي"، ويوجد بالقرب من مدخل المنطقة بناء يسمى "بناء البطركية"؛ شيد في فترة حديثة من تاريخ "دمشق" عام 1948، حيث كانت هذه البقعة قديماً مركزاً للعديد من الدكاكين سمي باسم "خان النحاس"، ويباع بداخله "قشر القنب" الذي تصنع منه "خيوط المصيّص" المستخدمة في حياكة "أكياس الخيش"، وأيضاً كان يجبل مع مواد البناء القديمة "الكلس" و"الطين" و"التراب" لخفض وتوفير التكلفة المادية».

وخلال حديثه تطرق إلى امتداد الحارات قائلاً: «"تلة النجارين" هي أعلى قمة في "دمشق القديمة"، سميت بهذا الاسم نسبة إلى وجود محلات النجارة بكثرة فيها، ويقال إنها واقفة على أنقاض قصر روماني قديم، وبني فيها أكثر من ثلاثين منزلاً.

مدخل الحي من جهة مدحت باشا

وبالقرب من تلك التلال يوجد "مقهى الناصري"، من أقدم المقاهي في "دمشق"، إضافة إلى "حمام الناصري" القديم أيضاً و"مسجد الناصري"».

والتقينا السيد "محمود اسماعيل الحلاق" مالك "مقهى الناصري"، فقال: «يقع المقهى في "تلة السماكة"، وقد تم بناؤه منذ مئة وخمس وعشرين سنة، ومن أقدم المقاهي الشعبية في "دمشق"، وهو ما زال محافظاً على كثير من هيئته التاريخية، ومقصداً لأهالي الحي».

وأضاف: «من المناطق المجاورة للمقهى "حارة الناصري"؛ التي سميت نسبة إلى قبر أحد الصالحين الذي كان فيها ويسمى "الناصري"، ويوجد فيها "حمّام الناصري" الذي يعد قديماً من قدم المقهى، وأيضاً توجد منطقة "القساطلية" التي سميت بذلك الاسم نسبة إلى وجود دكان يعمل في صناعة قساطل الماء الفخارية، إلا أن معالم هذا الدكان اختفت وبني فوق أنقاضه بناء حديث، وإلى جانبه تماماً "خان" لبعض المهن الشعبية مازال موجوداً حتى يومنا هذا، ومعملاً لصناعة "الملبّس" منذ العام 1960 لصاحبه "مأمون بيرقدار"».

كما التقينا مختار حي "مئذنة الشحم" السيد "محمد خليل الأيوبي" الذي تحدث لنا عن الواقع الخدمي في الحي: «المنطقة مخدمة كباقي مناطق "دمشق القديمة"، من كهرباء وهاتف وشبكة مياه، إلا أنه وبسبب الجفاف؛ بدأ شح المياه يظهر بشكل كبير على المنطقة وأهلها، أما فيما يخص التعليم، تتواجد مدارس عديدة منها "مدرسة أم الفضل" و"المدرسة المحسنية"، وأيضاً "المدرسة اليوسفية"، وتتواجد محلات عديدة لبيع الخضراوات والطعام ومستلزمات الحياة المختلفة، إضافة إلى "فرن الأمين الآلي"، وقربه سوق "البزورية" المملوء بالمحلات المتنوعة، وعلى الصعيد الصحي فإن أقرب مستوصف موجود في منطقة "الشاغور" القريبة من المنطقة».

ويقول الباحث "نصرالدين البحرة" في كتابه "دمشق في الأربعينيات وعبر القرون": «كان في الحي واحد من خانات دمشق القديمة، هو "خان النحاس" وقد ظل حتى الأربعينيات يقوم بوظيفة الخان التاريخية، ولقد نهض مكان الخان والدكاكين والحوانيت المجاورة جميعاً بناء حديث ضخم.

من المهن المنقرضة التي كانت موجودة في الحي مهنة "الدقاق"، حيث كان صاحبها يدق قشر القنّب حتى يصبح نتفاً صغيرة تخلط بمائع الكلس لتقويته ثم تطلى به الجدران، ومهنة "المبيض"، و"كواء الطرابيش"، و"الرشّاش" الذي كان يحمل على ظهره قربة جلدية ملأها بالماء، ويرش دروب الحي، في حين يتبعه "كنّاس" يتولى التنظيف بعده.

أذكر شيخ حارتنا "توفيق القباني" والد الشاعر "نزار قباني"، وهو من الذين دعموا رجال الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي مادياً ومعنوياً، وقد شارك العديد من شباب الحي في مقاومة هذا الاستعمار، وخاصة الإضراب المشهور عام 1936.

وكان لأهالي الحي مطارحهم الخاصة للنزهة مثل "بساتين القراونة" جنوب حيي "الأمين" و"الشاغور"، وقد تجاوزوها إلى مناطق "الربوة، دمر، عين الخضرة، عين الفيجة" في الأحوال العادية».