يعتمد الشاعر "عبدالحميد مراد" في قصيدته النثرية على الصور الجمالية والموسيقا الداخلية للنص، عبر استحضار ذاكرة الطفولة، حيث رائحة سنابل القمح، وخرير نهر "السفان" المسافر من جانب قريته "كنكلو" القابعة على الزاوية البعيدة من مدينة "المالكية".

مدونة وطن "eSyria" التقت "مراد" في منزله بـ"دمر" بتاريخ 28 آب 2014، وناقشت معه تجربته الشعرية؛ حيث يقول: «أنا من مواليد السبعينيات، نشأت مع جيل رأى الكثير من المنعطفات الثقافية والفكرية، وفي الحقيقة قرأت الشعر في منتصف الثمانينيات من خلال مكتبة صغيرة في منزلنا، احتوت الكثير من الأدب الروسي والتركي، قرأت في البداية للشاعر الكبير المناضل "ناظم حكمت"، كما قرأت للروسي "بوشكين" الذي كان متأثراً باللغة العربية، ثم قرأت قصائد "لوركا وبابلو نيرودا" إلى أن تعرفت على قصائد "محمود درويش" من خلال أغاني "مارسيل خليفة"، كما قرأت لكل شعراء المقاومة ومنهم: "سميح القاسم، توفيق زياد فدوى طوقان"، حيث كبر ونما معي هذا الحس الأدبي الجميل، لأتجه بعدها إلى كتابة الشعر، فتعمقت في كتابات "جبران خليل جبران، ونزار قباني" وآخرين، وحصيلة هذه الفترة كانت مجموعتي الشعرية الأولى "عندما تقرر العذراء أن تحب"، هذه المجموعة التي دخلت من خلالها الوسط الأدبي رغم بساطتها».

المكان هو ذاكرتي في القصيدة، ومشبعة بخيالي، أنا ابن قرية جميلة، تركتها منذ طفولتي، فيها كل معاني الطبيعة وبعدما التقيت بها مجدداً رأيتها صحراء مهملة، فتركت في قلبي الكثير من الآلم والوجع، ولكني في القصيدة أستحضر ماضيها، ربما لأنني لا أستطيع أن أتخيلها دون شجر ونهر وفاكهة

لم تبق بنية القصيدة لدى "مراد" كما هي، بل وجدت تطوراً ملحوظاً وخاصة في مجال التمكن من اللغة أكثر، والتعمق في الجملة الصورية وحبكة القصيدة بشكل عام، ويقول بتواضع واصفاً المراحل التي مرت بها مجموعاته الثلاث: «بعد ثلاثة مجموعات شعرية، ما زلت أجد نفسي مشروع شاعر، رغم رؤيتي الجميلة لهذا المشروع، وبعد قراءتي العميقة لكل أنواع الأدب، واطلاعي على تجارب كل شعراء الشرق بتمعن، بين مجموعتي الأولى "عندما تقرر العذراء أن تحب"، ومجموعتي الأخيرة "أغنية ناقصة"، وهناك المجموعة الثانية وهي "أغان للنوارس المهاجرة" التي ظهرت بمنزلة صرخة لشعراء قد تركوا بداخلي الكثير من المعاني مثل "عبدالله كوران، جكرخوين، محمود درويش، شيركو بيكس، لوركا". أما "أغنية ناقصة" جاءت حصيلة المفهوم النقدي من شقيقاتها وتوسيع الأفق الشعري من خلال توضيح الصورة الشعرية لدي، وتمكين اتخاذ الكلمة بمكانها، واعتمدت على الموسيقا الداخلية لكل قصيدة، وابتعدت بوضوح عن الإنشائية والمباشرة».

عبدالحميد مراد

الشعراء يتمتعون بقدرات تمكنهم من مرافقة المنعطفات وتوعية الضمائر في خضم الأزمات التي تمر بها الشعوب، وما يعصف به من تقلبات بالمفاهيم والقيم، وهنا يقول "مراد" عما يمكن للقصيدة أن تعطي للناس في هذا الزمن القاسي: «للشعراء قدرة التأثير في نفوس الناس، واليوم وخاصة بهذه الهجمة الشرسة على المنطقة عموماً وبلدي "سورية" خصوصاً، عادت قصائد الوطنية التي تغنى للشام إلى الواجهة الثقافية بقوة، وهذا يساهم في ترسيخ الحالة الوطنية، بعد أن كنا ومنذ فترة قريبة نفتقد القصيدة التي تعبر عن المآسي وعن الحالة الوطنية، وحتى نحن الشعراء كنا قد ابتعدنا قليلاً ولم نكن نكتب مثل الشعراء الذين كانوا قريبين من الآلام، وفي الحقيقة ارتبطت هذه الحالة بالمدارس النقدية التي حملناها لتبقى القصيدة مواكبة للحداثة وما بعدها، ولا أنكر أننا تظاهرنا بهذا المفهوم لتمييع مفهوم المعاني لدى المتلقي وجعله يغوص في المعاجم ليبحث عما نقصده، هكذا كنا نفهم الحداثة للأسف».

يتابع حديثه عن أهمية النقد في الساحة الأدبية قائلاً: «الأدب والنقد الأدبي يمشيان جنباً إلى جنب، فوجود الإبداع الحقيقي لا يصح ولا يكتمل دون وجود النقد له، ويبرز مستواه الحقيقي، كما يساهم في الكشف عن جماليات النص، ولكن النقد اليوم لا يؤدي مهمته، تلعب المحسوبيات حيزاً كبيراً في الساحة النقدية للأدب، كما أن هناك بعض الأقلام التي تأثرت بالمدارس الغربية، وغابت المفاهيم النقدية إلى أن وصلنا إلى عدم فهم ما يقوله أي مبدع حدثاوي اليوم».

من مجموعاته الشعرية

أصبحت القصيدة النثرية واقعاً في الأدب العربي، لا يمكن إنكارها، بل هناك قراء يفضلون هذا النمط الشعري عن غيره، ويدافع "مراد" كغيره من كتاب النثر قائلاً: «قصيدة النثر مدرسة حديثة، ناضلت لتجد نفسها مع إخوتها، بوجود المراهنات الكثيرة على فشلها، أنا أجد نفسي في شعر النثر لأنه يبعدني عن القيود، وبالتالي أبحث من خلاله عن الصور الجميلة والموسيقا الداخلية للقصيدة حراً، أما الموزون فله مكانته الأدبية المرموقة، وأعتقد أنهما سيسيران معاً».

في القصيدة النثرية أهمية كبيرة للمكان، يعتمد الشاعر من خلاله على ذاكرته ويمزجها بينها وبين خياله، وهنا يقول: «المكان هو ذاكرتي في القصيدة، ومشبعة بخيالي، أنا ابن قرية جميلة، تركتها منذ طفولتي، فيها كل معاني الطبيعة وبعدما التقيت بها مجدداً رأيتها صحراء مهملة، فتركت في قلبي الكثير من الآلم والوجع، ولكني في القصيدة أستحضر ماضيها، ربما لأنني لا أستطيع أن أتخيلها دون شجر ونهر وفاكهة».

من مجموعاته الشعرية

وأخيراً، طلبنا من الشاعر "عبدالحميد مراد" ليقول شيئاً لوطنه "سورية"، فقال:

"سأمد القلب جسراً

كي تعرف الجدة

طريق السوق العتيق

وصور المآذن والجسور

سأمدها من الوريد إلى الوريد

لأقول للنهر دعيني ودمي

فأنا القتيل... وأنا المجزرة".

يقول الشاعر والناقد "عمر كوجري": «الجميل في الشاعر "عبدالحميد مراد" أنه مازال مفتوناً بالشعر والأنثى، في زمن قلت فيه الفتنة والسحر، يطمح إلى كتابة نص أنيق محاولاً الاستفادة من تجاربه السابقة، يبحث عن بقايا أغانيه الضائعة والناقصة، وما زال يحلم أن يرمم أشلاءها، رغم إحساسه بأن الكلام الناقص أحياناً أبلغ صدى، وربما أجمل».

"عبد الحميد مراد" من مواليد قرية "كنكلو" التابعة لمنطقة "المالكية – الحسكة"، صدر له إلى الآن ثلاث مجموعات شعرية، وهي: "عندما تقرر العذراء أن تحب، أغان للطيور المهاجرة، أغنية ناقصة"، ونشرت العديد من قصائده في الصحف المحلية والعربية.