حرفة لا يتقنها إلا فنان مبدع؛ انطلق اسمها من "دمشق" فسميت "الزجاج المعشق"، تفرد بممارستها الحرفي "فايز تلمساني"، فكان له الفضل في استمراريتها والمحافظة عليها؛ إذ ساهم بترميم العديد من الأماكن الأثرية.

مدونة وطن "eSyria" التقت الحرفي وشيخ الكار "فايز تلمساني" في الفعالية التي ضمت شيوخ كار الحرف اليدوية المقامة بمحطة الحجاز بتاريخ 5 حزيران 2016، وعن حرفة الزجاج المعشق التي تألقت بأجمل ما قدمته أيدي صناعها؛ حدثنا "تلمساني" بالقول: «حرفة الزجاج المعشق من أقدم الحرف الدمشقية؛ اقتصرت على نوافذ دور العبادة والبيوت الدمشقية، وانتشرت لجفاف الجو من ناحية واستقرار معظم فصول السنة من ناحية أخرى. جمعت بين الإبداع والمهارة والقدم والحداثة، وتطورت عبر السنين وحافظت على أصالتها، ويرجع تاريخ نشأتها إلى ألفي عام، وجاءت تسميتها بالزجاج المعشق لترابط مادة الجص مع الزجاج، وتماسك وتناغم ألوان الزجاج والجص».

حرفة الزجاج المعشق من أقدم الحرف الدمشقية؛ اقتصرت على نوافذ دور العبادة والبيوت الدمشقية، وانتشرت لجفاف الجو من ناحية واستقرار معظم فصول السنة من ناحية أخرى. جمعت بين الإبداع والمهارة والقدم والحداثة، وتطورت عبر السنين وحافظت على أصالتها، ويرجع تاريخ نشأتها إلى ألفي عام، وجاءت تسميتها بالزجاج المعشق لترابط مادة الجص مع الزجاج، وتماسك وتناغم ألوان الزجاج والجص

وعن بداياته مع هذه الحرفة قال: «وأنا بعمر 14عاماً قررت الانتساب إلى مركز الفنون التطبيقية التابع لوزارة الثقافة، وحينها تعلمت حرفتين: الأولى سكب البرونز؛ وكان لي الشرف عندما شاركت بصب التمثال الموجود بساحة البلد في مدينة "السويداء" مع أستاذي "عبد السلام قطرميز"، الذي يزن طنّاً ونصف الطنّ، وما زال موجوداً حتى الآن. وأحببت حرفتي الثانية "المعشق" ووجدت نفسي فيها، فهذا الفن يحتاج إلى فنان يتذوقه ليفهمه ويستشعر جماله، وآمنت بأن إتقان حرفة المعشق -التي تعلمتها على يد فنان من عائلة "زنبركجي" ضمن أصولها التراثية- ستكون مصدر رزقي الأول؛ فسميتها "العاشق والمعشوق" لعشقي لها، وكنت أستمتع بكل لوحة أقوم بتشكيلها.

من أعماله

اجتماع الألوان وانعكاسها مدّني بطاقة إيجابية. أتذكر ببداياتي حادثة صغيرة بمعرض دمشق الدولي، وكان يستمر شهر تقريباً؛ وكنا قد صنعنا ثلاثين مصباحاً للإنارة من الزجاج المعشق، وتوقعنا أننا سنبيعهم خلال أيام المعرض، لكن فوجئنا بنفادها في اليوم الأول، وحينها بدأنا نعمل ليلاً ونبيع نهاراً طوال مدة المعرض، وبعنا المصباح الواحد بخمس ليرات مع العلم أن تكلفته نصف ليرة، وبالنسبة لنا كطلاب مدرسة كان يعد مبلغاً جيداً».

كوصف لهذا الفن يقول: «هو فن خلاب يعتمد مرور الضوء عبر القطع الزجاجية الملونة لينشر في الداخل أضواء ملونة؛ تتغير ألوانها على مدار النهار؛ لاختلاف زاوية سقوط الشمس عليها، فنور الصباح يختلف عن نور ما بعد الظهر وعنه عند المساء، ويشكل حالة جميلة ليلاً عندما نقوم بإنارة البناء فينتقل منظر جميل للخارج، وما يميز الحرفي الدمشقي عن بقية الحرفيين بالعالم والوطن العربي؛ محافظته على التراث الدمشقي، فالقطعة الدمشقية تتميز بأن الوجه والخلفية متشابهان، وهذا النوع من العمل يتحمل عوامل الطقس الباردة والحارة؛ وهو ما ميزه عن غيره من المعشق ذي الوجه الواحد، وله ميزة مدروسة من ناحية التصميم واختيار المكان المناسب، ويفضل أن يكون معرضاً للشمس لإبراز جمال وزهو ألوان الزجاج عند انعكاس تفاصيل التصاميم على الجدران والأرضيات، وكذلك لتخفيف حدة أشعة الشمس».

كريم "تلمساني" في فعالية أيام التراث السوري 2016

تعتمد هذه الحرفة الطراز النباتي من أغصان وورود، والخط العربي الهندسي، ولاسيما الكوفي بأنواعه المتعددة أو الخطوط العربية الإسلامية، وتشكيل الألوان بهذا الشكل له قواعد: كصف الزجاج بالوسط وباللون الأحمر؛ وهو قلب الإنسان أي المركز أو القوة أو الشمس، ثم اللون البرتقالي ويرمز إلى طيف الشمس، وبعدها اللون الأخضر للشجر والحياة، ثم الأزرق للسماء والبحر. نفذت أعمالاً من روح التراث منها نوافذ جامع في "صيدنايا" ومتحف في "دير عطية" وجامع "الدرويشية"، وأعمالي وصلت إلى عدة دول عربية وأجنبية».

وعن شيوخ الكار ومحترفي هذه المهنة اليوم قال: «الحرفة تحتاج إلى حب وصبر، وأن يكون حذق الصنعة؛ أي يتقنها حتى يتمكن من الإبداع، وما دفعني إلى الاستمرار بها إيماني بعملي، مع العلم أن معظم الحرف اليدوية القديمة تواجه خطر الاندثار، وقد أدى انقراض بعضها إلى تحول معلمي هذه الحرف نحو أعمال أخرى، وعزوف المتعلمين الجدد عنها، وانقطاع توريثها إلى الأبناء الذين فرضت عليهم الحياة واقعاً جديداً، فالإقبال على تعلمها قليل. منذ مدة قمت بتعليمها لمدرّسة فنون وحالياً تعلمها لطلابها، كما أنني علمتها لأولادي.

رئيس اتحاد الجمعية الحرفية "فؤاد عربش"

هناك شباب يرغبون بتعلمها لكنهم يفتقرون إلى الصفات التي تؤهلهم لممارستها والمحافظة عليها، فبمجرد تعلم صب قالب "الجبصين" وصف الزجاج يعتقدون أنهم أتقنوها. سابقاً كان من يرغب بتعلم الحرفة يمضي وقتاً كافياً بتعلمها، وإن أراد أن يعمل وحده يأخذ موافقة شيخ الكار، ويجب أن يكون حسن السمعة. حالياً هناك جهود من الاتحاد العام للحرفيين للتأكيد أن على الحرفي الذي يرغب بالعمل وحده الحصول على شهادة من شيخ الكار تسمى شهادة حرفة».

ويتابع: «مرت هذه الحرفة بفترات ركود، لكنها ازدهرت، ومنتوجاتها تتمتع بسمعة جيدة بين مختلف الأوساط الاجتماعية، على الرغم من دخول الصناعات الحديثة في تقديم هذه المنتجات، وما زالت حرفة "المعشق" تدخل في استعمالات عدة ولم ينافسها الزجاج الحديث لأن راغبيها اليوم كثر، حيث دخلت بعدة مجالات كديكورات "الجبصين" ومصابيح إنارة وقواطع للصالونات الداخلية، إضافة إلى لوحات جدارية، أحياناً يطلب مني أن أقوم بعمل ديكورات "جبصين"، لكنني أرفض لأنني لا أشتغل غير التراث مهما دفع لي من مبالغ مالية».

"فؤاد عربش" رئيس الجمعية الحرفية للصناعات الفنية الشرقية التراثية عبّرعن رأيه بفن "تلمساني" بالقول: «هو الوحيد في "دمشق" الذي يعمل بحرفة الزجاج المعشق، له الكثير من الأعمال المميزة، ويعد من أبرز الفنانين الذين أبدعوا في تقديم أعمال فنية ستخلد ذكره؛ إذ ساهم في ترميم العديد من الأماكن الأثرية التي تحتفي ببعض نماذج الزجاج المعشق، وأكثر أعماله في دور العبادة والأماكن الأثرية والمتاحف وغيرها من بيوت "دمشق القديمة". رجل لا تفارقه الابتسامة، محب لعمله ولحرفته، ونأسف لأنه لا يوجد إقبال من الأجيال الجديدة على تعلمها».

يذكر أن "فايز تلمساني" من مواليد "دمشق" 1950، وكرّم بالجائزة الأولى في المعرض التخصصي الأول للحرف والصناعات التقليدية؛ الذي أقيم في مديرية ثقافة "دمشق" دعماً لترشيح "دمشق" مدينة مبدعة، كما تم تكريمه في فعاليات أيام التراث السوري عام 2016، وفي معرض وزارة السياحة الخاص بشيوخ الكار بالتعاون مع الاتحاد العام للحرفيين في محطة "الحجاز" بـ"دمشق".