جمع ألواناً مختلفة من الفنّ فامتلك مهنة الفن والجمال؛ استطاع الحرفي "خلدون المسوتي" أن يصور التاريخ كمحترف، بأقدم حرفة تصويرية عرفتها البشرية "الفسيفساء"، ليتفرد عن أقرانه بإتقانه لمهنته ومحافظته على التراث.

المهن التراثية تاريخ؛ فهي تحكي بالصورة بدل الكلمة، تجسد التاريخ من التاريخ، من الأرض للأرض فتستحق منا أن نكون حرفيين محترفين، هذا ما قاله الحرفي الفنان "خلدون المسوتي" لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 30 تشرين الثاني 2015، في الورشة الكائنة في "باب شرقي"، فحدثنا قائلاً: «رؤية طفل يرسم بالريشة مشهد جميل ومألوف، لكن الأجمل رؤية طفل يرسم ثم يرصف بالحجر الطبيعي أو الرخام الملون حضارة وعراقة وتاريخ أجدادنا، وهذا ما شدني لتعلم هذه الحرفة التي تحتاج إلى مهارة وفن، والدي "عبد الكريم المسوتي" خبير بكل الحرف لكنه من أمهر الحرفيين بحرفة الفسيفساء؛ الذي يبلغ من العمر حالياً 78 عاماً، ومثل أي حرفي دمشقي عتيق يقوم بتعليم المهنة لأبنائه، فهو المعلم والمشجع بالوقت نفسه، في البداية أعطاني والدي رسمة هندسية وطلب مني أن أرصفها كما أفعل مع ابني الآن؛ حيث تمكن من رسم ورصف خريطة سورية وشارك في عدة معارض. وكان والدي يصف ما قمت بإنجازه اليوم بأنه رائع، لكن هناك أحسن! وما لبث أن بدأ يردد أنا فخور بك، فأنت امتلكت مهنة الفن والجمال».

إننا سفراء داخل وخارج البلد، وما زلنا نعمل مع العلم أننا تأثرنا بالأزمة؛ فبعد أن خسرنا ورشاتنا نأمل أن يكون هناك اهتمام أكثر بالحرفيين المتبقين والمعدودين على الأصابع

وكتعريف لمهنة الفن والجمال قال: «هي عبارة عن قطع صغيرة من الرخام والحجر الطبيعي بألوانه الطبيعية، يرصف على رسومات مشكلاً لوحات لا مثيل لها من الجمال، وعن مهد تلك الحرفة فقد تنوعت الأقاويل التي تتحدث عن تاريخها الروماني أو اليوناني؛ لكن كما يقال دائماً من قبل علماء الآثار والجيولوجيا فإن أقدم المناطق التي وجدت فيها الفسيفساء هي "سورية" أو بلاد الشام لكثرة اللقى الأثرية فيها، وبما أن سبعة أباطرة سوريين حكموا روما، تم إنشاء الأسطول السابع الروماني الذي نقل أمهر الحرفيين إلى أراضي الرومان لبناء "روما" الجديدة، ومنهم "أبولودور الدمشقي" الذي تغنى العالم بفنه ويعدّ أبا النحاتين والحرفيين في العالم».

من أعماله لوحة الملكة إليزابيث

ويتابع: «حرفة الفسيفساء هي الهواء الذي أتنفسه، لهذا لم أستطع الابتعاد عنها على الرغم من أنني دخلت كلية الحقوق، لكن طموحي أن أكون حرفياً محترفاً، والآلة لا تدخل إلا بجزء قليل، فأغلب العمل يدوي ولا يمكن للوحة أن تشبه الأخرى، وأنا فخور بهذا؛ ولأنني أمتلك مخيلة خصبة جعلتني من عشاق تجسيد مواضيع "الفانتازيا" في لوحاتي، كما أحب تجسيد الأدغال والحيوانات والأساطير وقصص ألف ليلة وليلة، ونجحت بتصميم أعمال لفنانين عالمين كلوحة "العشاء الأخير" للفنان العالمي "ليوناردو دافنشي" التي بيعت لتاجر لبناني، ومن أعمالي لوحة تمثل الأميرة "ديانا" حيث وضعت على ضريحها في "ويلز"، وكذلك لوحة أخرى للملكة "أليزابيث" ملكة بريطانيا تعرض بالقصر الملكي، إضافة إلى لوحات لزعماء ومشاهير آخرين».

حبه لبلده وتراثها وتاريخها جعله يشارك في أغلب المعارض، وعن هذا قال: «النصب التذكاري هو آخر عمل شاركت بنحته ورصفه، وتم وضعه في حديقة الضيافة بـ"دمشق" 2014، وهو عبارة عن لوحة "بانورامية" تحوي 21 معلماً أثرياً، والعمل عبارة عن (ماكيتات) مصغرة للقلاع السورية وحضارة أقدم المدن في التاريخ، وفسيفساء تمجّد بطولات الجيش العربي السوري، كما اشتهرت بنحت "البحرات" والشلالات الدمشقية ورصفها بالفسيفساء. وكانت التصاميم إما رسماً هندسياً أو نباتياً وتمثل موضوعات دينية ودنيوية وأيضاً أساطير وخرافات، كما شاركت في نحت تماثيل القرية الشامية في تركيا، وكانت أعمالي سفراء لبلدي حيث شاركت بالقرية العالمية بدبي».

من أعماله لوحة الأميرة ديانا

الحرفي الذي لا يمتلك المقومات السحرية لا يمكنه أن يكون ساحراً بمهنته، وعن المهنة قال: «لكل مهنة مقومات للإبداع؛ فلا بد من الموهبة وحب العمل، وهناك فرق بين الحرفي الذي يتعلم المهنة ليعيش وبين الحرفي الذي يعمل ليبتكر؛ لهذا لا يمكن لعمل أن يشبه الآخر، والحرفي الدمشقي معجون من حضارات عريقة فيعشق التاريخ ويعمل على إظهاره في أغلب أعماله؛ حيث إنني أشعر بسعادة وأنا أنحت "بحرة" دمشقية وأفتخر بنفسي، فأنا من أشد المحافظين على التراث، وشاركت مع والدي منذ الستينيات في "معرض دمشق الدولي"، وكانت آخر مشاركة منحوتة جسدت "ساحة المرجة" مع العمود بمنتصفها؛ وهذا ما أذهل الحضور».

ويستكمل حديثه بالقول: «قديماً كانت الحرفة تجسد الحضارات القديمة وتمجد الملوك والأباطرة والآلهة، وتمجد أشخاصاً على حساب آخرين، حالياً لا تمثل غير الفن، والحرفي الذي تعلم الحرفة وحافظ عليها وأحياها على الرغم من أنها لم تعد تؤمن مصدر قوته اليومي، يستحق لقب شيخ الكار، وعشقه لمهنته منعه من مزاولة عمل آخر، وبرأيي لقب شيخ الكار لا يقاس بالعمر الحقيقي وإنما بالعمر المهني، وفي هذا الوقت معنوي لا أكثر، وسابقاً كان مرجعاً على الصعيد المهني والاجتماعي».

لوحة فسيفسائية مأخوذة من قصص ألف ليلة وليلة

"فؤاد عربش" رئيس الجمعية الحرفية تحدث عن أعمال "المسوتي" بالقول: «هو أحد الحرفيين المتفردين بزخرفة الحجر الطبيعي الملون، فاللوحات الحجرية الجدارية والأرضية التي يصممها ذات مساحة كبيرة وهنا يبرز الإبداع، فمهارته وخبرته التي اكتسبها من والده وأضاف إليها موهبته وحبه للعمل مكناه من التفرد بنحت وتشكيل الأشخاص والحيوانات والبيت الدمشقي، وتميز بتصميم ملامح الوجه الفسيفسائية حتى إنك تعتقد لبرهة أنها ناطقة؛ وما ميزه عن غيره إيمانه بتراث بلده، لهذا تراه حاضراً بالمعارض الداخلية قبل الخارجية، يتمتع بأخلاق الحرفي وشيوخ الكار، فإن قبض مبلغاً مادياً من زبون قبل أن يأخذ لوحته يقول له تستطيع استرداد مالك إن لم تعجبك اللوحة، فهو واثق من فنه؛ فصعوبة العمل تكمن بحجمه ودقته والوقت الذي تقضيه لإنهائه، وهناك لوحات تحتاج إلى 300 ألف حبة، وهناك لوحات تحتاج إلى عشرة آلاف حبة حتى إنجاز العمل المطلوب؛ وهذا الأمر يحتاج إلى وقت كبير وجهد ودقة وفن».

يضيف "المسوتي": «إننا سفراء داخل وخارج البلد، وما زلنا نعمل مع العلم أننا تأثرنا بالأزمة؛ فبعد أن خسرنا ورشاتنا نأمل أن يكون هناك اهتمام أكثر بالحرفيين المتبقين والمعدودين على الأصابع».

يذكر أن "المسوتي" من مواليد 1975، مؤسس ومفوض القرية التراثية بـ"دمشق" التي يأمل أن ترى النور، ورئيس "جمعية شام الياسمين للتراث الدمشقي والتأهيل المهني"؛ وهدفها حماية المهن التراثية والعاملين فيها.