في الإنسان طاقة هائلة لا توقفها حدود، ولا تقطعها صعوبات، قد تضعها الأقدار في طريق النجاح، هذه الرؤية هي مهماز حياة المبرمج السوري "خلدون سنجاب" متحدي الصعاب بطريقة لن نجد لها مثيلاً.

شاءت الأقدار أن يصاب الشاب "خلدون" -مواليد دمشق 1977- بالشلل الرباعي إثر اصطدام رأسه بالأرض أثناء قفزه من قارب قرب شاطئ "طرطوس" خلال العطلة الصيفية هناك في أيلول عام 1994، حيث أسعف إلى مستشفى "طرطوس" الوطني ثم "دمشق".

كل شيء صار أجمل، زاد إحساسي بالسعادة والاستقرار، وستكتمل فرحتي عندما نرزق بالطفل

يقول في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 19 تموز 2015: «في "دمشق" أظهرت الصور كسراً في الوجار؛ "الناتئ السني" للفقرة الرقبية الثانية، وهو ما تسبب بأذية مستديمة في النخاع الشوكي.

مع زوجته وابنتها في المنزل

ولأن الإصابة كانت في أعلى العمود الرقبي أصبحت مشلولاً بالكامل، وبسبب شلل الحجاب الحاجز أصبحت معتمداً على المنفسة، وبقيت في غرفة العناية الفائقة مرتبطاً بالمنفسات لأكثر من 7 أشهر متنقلاً بين أربع مستشفيات، وأخيراً قرر أبي استيراد منفسة منزلية، فانتقلت إلى المنزل».

نشأ "خلدون" في بيئة متعلمة، والده "عبد الكريم" مهندس معماري، وهو إلى اليوم يقوم برعايته، ووالدته "حنان القهوجي" معيدة في كلية الرياضيات بجامعة "دمشق" وقد توفيت بعيد إصابة ابنها بثلاث سنوات بمرض السرطان، وبقيت بقية عائلته تقوم برعايته.

أثناء العمل

نال الشاب الثانوية بمعدل يؤهله لدخول كلية الطب، ولكنه فضل كلية الهندسة قسم الإلكترون بجامعة "دمشق" لتعلقه بالإلكترونيات من صغره وتعلمه لغة QBasic؛ التي تركت أثراً كبيراً في حياته لاحقاً، فبدأ الاستعداد لمرحلة جديدة، يتابع في حديثه: «تعلمت لغة البرمجة بفضل حاسوب أحضره لي خالي، ثم بدأت قراءة كتب إنكليزية عن لغة C ++ والبرمجة الثلاثية الأبعاد، وقد ترجمت كتابين منها بمساعدة كثيرين، وكنت أقرأ مستعيناً بأداة لحمل الكتب صنعها صديقي "مهران الكردي" الذي صنع لي عدة أجهزة أخرى مفيدة، ثم أحضر لي خالي حاسوباً دائماً، فبدأت تطبيق ما تعلمته».

اقتصر تواصل "خلدون" مع العالم منذ إصابته على أصدقاء أحاطوه بمختلف الرعاية والاهتمام، حتى ظهور الإنترنت حيث بدأ استخدامه وتوسعت علاقته مع كثيرين من الناس حول العالم، أمّن له أحد الأصدقاء عملاً في شركة تهتم ببرامج الأطفال، «وبسبب إعاقتي، لم أكن قادراً على استخدام لوحة المفاتيح والمؤشر، لذلك كنت أتواصل مع الحاسوب من خلال موظفة تطبق ما ألقنها إياه، وكنت أرى النتائج باستخدام شاشة عرض موضوعة إلى جانبي.

مع ابنته

حاول بعض الأصدقاء اختراع مؤشر "Mouse" تناسبني، ونجح صديقي الدكتور "نسيم رتيب" بصناعتها لأستخدمها بشفتي السفلى ولساني، فأصبحت أتواصل مع الحاسوب بنفسي للمرة الأولى، وقد تطور المؤشر عبر عدة مراحل حتى وصلت إلى شكلها الحالي، وباستخدام تطبيقي الخاص لوحة المفاتيح الفعلية أصبحت قادراً على الكتابة باستخدامه».

في مسيرة حياته قدم "خلدون" نموذجاً ليس لتحدي الإعاقة فقط، بل للقدرة على تطوير وتغيير مسيرة حياته بالإصرار والمثابرة، حين بدأ يعطي دروساً للطلاب ووقتها في العام 2008 تعرف إلى من أصبحت زوجته فيما بعد؛ "يسرى"؛ المرأة التي جاءت إليه لتأخذ دروساً تكمل بها الثانوية، يقول: «كل شيء صار أجمل، زاد إحساسي بالسعادة والاستقرار، وستكتمل فرحتي عندما نرزق بالطفل»؛ الذي سيكون طفل أنبوب حسب زوجته.

تقول زوجته في حديثها: «أنام إلى جانبه، وأستيقظ ليلاً بمجرد أن ينادي صوته باسمي لأقدم له المساعدة، وقبل النوم أحرص على التأكد من سلامة المنفسة الاصطناعية الموصولة إلى عنقه، وهي تعطي إنذاراً صوتياً في حال حدوث انقطاع أو خلل أثناء النوم، والحمد لله هذا لم يحدث، أطعمه وأسقيه وأعتني بصحته، أحس بأنني أضفت ألواناً وحناناً ودفئاً إلى حياته، وأنا سعيدة جداً لأنني أسعده، معه أشعر بالرضا التام والحب الكبير، وأنا مقتنعة جداً باختياري».

تطورت خبراته باتجاه مخدمات الاتصالات "Server"، فحجز لنفسه أحدها وبدأ يحجز للزبائن ويصمم مواقع ويهتم بشؤون الأمن الإلكتروني وتطبيقات التصاميم ثلاثية الأبعاد، معتمداً على البرمجيات المفتوحة المصدر بوجه رئيس، وقد أطلق موقعه الإلكتروني قبل وقت قصير، ويستقبل عبره طلبات الزبائن ويخدمهم باحتراف، ويفخر بأنه حقق من عمله شراءه لبيته ودفع تكاليف زواجه من دون أن يضطر لطلب المساعدة من أي إنسان، كما يقول.

ليس لدى "خلدون" وقت فراغ، فهو يقضي وقته في متابعة عمله مع شركات تعاقدت معه لبرمجة مواقعها إضافة إلى مواقع أخرى يعمل لها، كما يساعد طلاب الجامعات في إعداد مشاريع تخرجهم، والأهم أنه مواظب دائم لتعلم كل جديد في عالم البرمجيات من كتب ومراجع إلكترونية وبرامج وسواها، يساعده في ذلك إتقانه للغة الإنكليزية ويتيح له الاطلاع على هذه المعارف من مصادرها المباشرة.

وضعه الصحي مستقر حالياً ويجري فحوصاً طبية كل مدة، يعيش اليوم في "بيروت" مع زوجته وابنتها التي تناديه "بابا" وتتمدد بجانبه دائماً للتفرج على عمله على الكمبيوتر والإنترنت، بعد سنة ونصف السنة من الزواج الذي "غير حياته إلى الأجمل".