في حلهم وترحالهم، حمل السوريون معهم ثقافتهم وذكرياتهم إلى كل بقاع العالم، لا بل إنهم حملوا معهم أسماء مدنهم فكان هناك العديد من المدن ذات الأسماء السورية في "العالم الجديد" كما تسمى القارة الأميركية في أدبيات المهاجرين.

تشير إحصائية أصدرها "المجلس الأميركي للأسماء الجغرافية" إلى وجود ما يقرب من 500 اسم لمدينة أو بلدة أو قرية في الولايات المتحدة وحدها تحمل أسماء عربية، من بينها العديد من المواقع المأهولة التي تحمل اسم "دمشق وحلب واللاذقية وحمص وحماة"، من بينها 27 موقعاً باسم "دمشق" وحدها فقط، وفي كندا أيضاً يوجد عدد من المدن يحمل أسماء مشابهة لأسماء مدن سورية وعربية.

نلاحظ أن الأوروبيين في الأماكن التي استوطنوا فيها لم ينقلوا أسماء المدن التي جاؤوا منها إلى العالم الجديد بل أطلقوا عليها أسماء محلية مثل نيويورك، ونيواورليانز ونيوهامشر، لا تحمل أي سمة من جنسيات المهاجرين الذين أسسوها بل إنها تشير إلى بدايات جديدة لهم

وفي شرح هذه الظاهرة تاريخياً تحدث لمدونة وطن eSyria بتاريخ 29 تشرين الثاني 2013 الدكتور "خضر عمران" اختصاصي في قسم التاريخ من جامعة "تشرين" قائلاً: «يعتقد أن أوائل السوريين الواصلين إلى أميركا جاؤوا مع المستكشفين الإسبان في القرن الخامس عشر، وتذكر بعض الوثائق أن أول المهاجرين الفعليين من بلاد الشام كان شاباً سورياً من جبل لبنان اسمه "أنطون بشعلاني" وجاء في عام 1854، وعاش ومات في نيويورك.

سوريا الصغرى في قلب مانهاتن

وبشكل فعلي وضخم وصلت أول موجة من المهاجرين السوريين إلى الولايات المتحدة عام 1893 خلال الحكم العثماني لمنطقة بلاد الشام، وإلى كندا عام 1888عبر نيويورك حيث قدر عددها بما يقرب من مئة ألف مهاجر أغلبهم من منطقة بلاد الشام، ومن ثم وصلت دفعات أخرى لاحقاً وينتشر أبناء الجالية في مختلف الولايات الأميركية ولكن تظل مدن وضواحي شيكاغو ونيويورك وهيوستن وديربورن ومنطقة واشنطن أهم مراكز تجمع الجالية».

بعض من هؤلاء المهاجرين لم يستقر في المدن الكبرى، بل غادرها بعد وقت ليؤسس قرى ومزارع حملت في بعض منها أسماء سورية وعربية مشتقة من أسماء المدن التي غادروا منها، ويشير كتاب "تاريخ المهاجرة السورية إلى الولايات الأميركية" لمؤلفه "الخوري باسيليوس خرباوي" (إصدار مطبعة "الدليل" لصاحبها "نجيب جرجي بدران"، نيويورك 1913، الطبعة الجديدة باريس 2007) إلى "أن سوريين نزحوا من ولاية "مينيسوتا"، ثم نزلوا في مدينة "فاركوا"، في ولاية "نورث داكوتا" حيث توصلوا بتعبهم وعملهم إلى إنشاء مجموعة من المزارع الكبرى أُطلِق عليها اسم "المستعمرة السوريّة".

مبنى الخدمات العامة لبلدة حلب

وتشرح الدكتورة "حنان عبد اللطيف" اختصاصية الترجمة والمقيمة حالياً في "كندا" لمدونة وطن أسباب هذه التسميات فتقول: «بعض ممن هاجر في تلك الفترة هم عائلات بكاملها لها ذكرياتها وتاريخها في موطنها، وبالتأكيد شعرت بالحنين إلى موطنها الأصلي خاصة لشعب تعلم الارتباط بالأرض بطريقة فيها من العاطفية الشيء الكثير، خلافاً للمهاجرين الأوربيين الذين لم يشعروا بكثير من الغربة لعدم وجود فوارق لغوية ضخمة فاللغة المتداولة هناك هي الإنكليزية وهي بشكل أو بآخر قريبة من لغاتهم، أما المهاجرون العرب فوجدوا أنفسهم في بيئة جديدة كلياً، ومحاولاتهم تسمية المدن والبلدات التي أسسوها على أسماء مدنهم الأم ما هو إلا تذكير لأنفسهم قبل غيرهم بأصولهم، خاصة أن الكثيرين منهم غادر على أمل الرجوع إلى بلاده بعد أن يكون قد جمع من المال ما يساعده على الحياة الكريمة».

وتضيف الدكتورة قائلةً: «نلاحظ أن الأوروبيين في الأماكن التي استوطنوا فيها لم ينقلوا أسماء المدن التي جاؤوا منها إلى العالم الجديد بل أطلقوا عليها أسماء محلية مثل نيويورك، ونيواورليانز ونيوهامشر، لا تحمل أي سمة من جنسيات المهاجرين الذين أسسوها بل إنها تشير إلى بدايات جديدة لهم».

خريطة توضح موقع بلدة "دمشق"

ولا يمكن بحسب السكرتير التنفيذي للمجلس الأميركي للأسماء الجغرافية "رودجر ‏باين" تحديد هوية الذين أطلقوا هذه التسميات بشكل دقيق، ولكن هناك احتمال كبير أن يكون هؤلاء على ارتباط مع المواطن الأصلية التي قدموا منها، خاصة بوجود العديد من هذه الأسماء، كما يمكن القول أيضاً إن المهاجرين العرب ليسوا هم من سماها كلها وذلك لأن بعضها يعود إلى القرن التاسع عشر وقبل بدء الهجرة العربية الفعلية إلى أميركا بعقود، في حين كانت توجد أسماء سورية لمدن تأسست قبل الهجرة العربية إلى هناك يعود تأسيسها إلى أشخاص أخذوا الاسم من أسماء المدن التي وردت في الكتاب المقدس.

وحول تفسيره وجود عدة مدن أميركية باسم مدينة دمشق يقول "باين": «إن أقدم توثيق لوجود هذا الاسم ورد في وثائق الكونجرس عام 1816 لمدينة تحمل اسم دمشق تقع في مقاطعة ترايل تاون Trail Town بولاية فيرجينيا Virginia، وتمتد أراضيها إلى مقاطعة مونتغمري Montgomery بولاية مريلاند Maryland المجاورة، تعود تسميتها إلى العاصمة السورية "دمشق" كما بين في مذكراته مؤسسها "إدوارد هيوز"، وقد اعتبرت سنوات 1890-1914 بداية التأسيس الفعلي لها»، وهي سنوات وصول السوريين إليها مهاجرين، وهذا الأمر يؤكده الموقع الرسمي للمدينة على الإنترنت.

وفي عام 2000 بلغ عدد سكان هذه المدينة 11430 نسمة، وللمدينة شهرة واسعة من خلال تميزها بصناعة الخناجر والمطاوي (السكاكين)، ومن اللافت للانتباه أن الخناجر المصنوعة في هذه البلدة تشبه بشكل مقابضها ونحتها وزركشتها كثيراً الخناجر التي تتميز بها "دمشق".

من البلدات الشهيرة أيضاً بلدة تحمل اسم "حلب Aleppo" وتقع في مقاطعة ألغني Allegheny بولاية بنسلفانيا Pennsylvania وقد أدرجت كبلدة بقرار من الكونغرس في 7 حزيران 1876 وبلغ عدد سكانها 1916 نسمة عام 2010، تعتبر البلدة مسكناً هادئاً للمتقاعدين.

كما توجد في الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وأميركا اللاتينية مدن حملت أسماءً عربية أخرى مثل "القاهرة وبغداد والأردن وغزة وفلسطين والرباط" وأكثرها عدداً حسب المجلس الأميركي للأسماء الجغرافية هو اسم "الأردن"، كذلك توجد مؤسسات تحمل أسماء عربية من بينها مؤسسة تحمل اسم "اللاذقية" تأسست عام 1946 وتختص فقط بصناعة "دخان" اللف ودخان "الغليون" وتضعه ضمن علب معدنية.

شكر خاص:

للدكتور "سمير نصير" من كلية الزراعة بجامعة تشرين لمعلوماته القيمة ولمساعدته في الترجمة عن الفرنسية.