عرفت الموسيقا منذ القدم بأنها من أهم الفنون تأثيراً في المخلوقات والطبيعة عامة، كما عرف تأثيرها السحري بقدرات الإنسان خاصة، وهي أقدر وأرقى أنواع منشطات الحياة والصحة النفسية والعضوية.

مدونة وطن "eSyria" التقت بتاريخ 13 تشرين الثاني 2014، الباحث الموسيقي "جمال سامي عواد" للبحث أكثر في اختصاص "العلاج بالموسيقا"، الذي أفادنا بالقول: «الموسيقا تساعد كثيراً في تحسين الحالة الصحية للمرضى والأصحاء على حد سواء، فهي تستطيع فعل ذلك بمجالين: الأول المجال الفيزيائي البحت، والثاني وهو المجال النفسي والعاطفي والروحي، وهو ما يمكن تشبيهه بالعلاج الفيزيائي أو التربوي أو بعض التقنيات النفسية، وهو يتداخل مع الكثير من هذه المجالات، فهو يتقارب مع العلاج الفيزيائي في مواضيع المهارات الجسدية اللازمة للتعامل مع الموسيقا، ويتقارب مع علم النفس في ناحية التداخل العاطفي والخيال والارتجال الموسيقي، وتحليل الموسيقا وإعادة إنتاجها، إذ يمكن للموسيقا أن تكون تقنية أساسية في الكثير من الحالات المرضية النفسية، والجسدية المتعلقة بالطب النفسي الجسدي، كالعديد من الاضطرابات الهضمية الناتجة عن الحالات النفسية، والوساوس القهرية، والتشنجات العصبية، والآلام المزمنة المجهولة الأسباب.

حالة "حيدر" تطورت كثيراً للأفضل، حيث جرى تحسن كبير بالنطق لديه، كما أن التركيز أصبح أفضل، وأصبح لديه حافز للتعلم والاستجابة لمهمات أخرى تطلب منه، حركة يديه والحركة عموماً، كما أصبح يحفظ المعلومات أفضل، وأكثر تفاعلاً مع من حوله، كما نشأت لديه رغبة بالإنجاز، ووصل لمرحلة عزف مقطوعة "ليلة عيد" وحده على الأورغ، فقد كانت النتائج ملموسة وحقيقية

كما أنها تفيد كثيراً في النواحي التربوية والتعليمية، كتعديل السلوك وصعوبات التعلم، وتحسين مهارات التواصل والمهارات الاجتماعية والنفسية والعقلية، كما يمكن في جوانب معينة اعتبارها علاجاً فيزيائياً بحتاً في حالات التدريب على المهارات الدقيقة المفقودة لدى شريحة من المرضى، كالتحكم بالجملة العصبية لتقوم بأداء مهمة موسيقية معينة، تتطلب مهارات دقيقة محددة كتحريك الأصابع بطريقة معينة بناء على خطة مسبقة وتحريك الأرجل والأيدي على إيقاع معين والتحكم بشدته وسرعته، كما يمكن القول إن المجال الطبي يتضمن ما يتضمنه مجال العلاج النفسي، لذلك فالعلاج بالموسيقا يمكن بسهولة تصنيفه في صنف التدخل الطبي في مقاربة الاضطرابات الصحية للبشر، وهذا ينطبق أيضاً على العلاج النفسي والفيزيائي والتربوي أحياناً».

جمال سامي عواد

ويضيف بالقول: «تجربتي الشخصية في هذا المجال كانت في مجال معين من المجالات الكثيرة من العلاج بالموسيقا، وأمارس عملي هذا من خلال الجلسات المنظمة مع المرضى أو ذوي الاحتياجات الخاصة، وهناك حالات شفاء من بعض الأمراض، وفي حالات أخرى نساعد العلاج الرئيس، وفي حالات نستطيع تحقيق نجاح جزئي؛ فالموضوع نسبي حسب حالة كل مريض، ففي بعض الحالات مثل "التوحد" ساعد بسرعة على تعلم القراءة والكتابة والنطق أحياناً، وساعد بتحقيق باقي الأهداف التربوية الموضوعة بالمركز للطفل، كما ساعد الكثيرين من الأطفال على تحسين حالتهم الجسدية».

كما كان لنا لقاء مع السيدة "أمل ابراهيم" والدة الطفل "حيدر حمدان" المصاب "بمتلازمة داون"، حيث خضع الطفل لجلسات "علاج بالموسيقا" عند الباحث "سامي جمال عواد"، وأفادتنا بالقول: «حالة "حيدر" تطورت كثيراً للأفضل، حيث جرى تحسن كبير بالنطق لديه، كما أن التركيز أصبح أفضل، وأصبح لديه حافز للتعلم والاستجابة لمهمات أخرى تطلب منه، حركة يديه والحركة عموماً، كما أصبح يحفظ المعلومات أفضل، وأكثر تفاعلاً مع من حوله، كما نشأت لديه رغبة بالإنجاز، ووصل لمرحلة عزف مقطوعة "ليلة عيد" وحده على الأورغ، فقد كانت النتائج ملموسة وحقيقية».

دكتورة حمدة فرحات

وعن التفسير العلمي "للعلاج بالموسيقا" وكيفية تأثيره في جسم الإنسان، تقول الدكتورة "حمدة فرحات" الاختصاصية بعلم النفس المرضي والعيادي والعلاج بالموسيقا: «لقد أثبت العلم الحديث أن ذبذبات الموسيقا تؤثر تأثيراً مباشراً في الجهاز العصبي، إذ يمكن لكل ذبذبة أو أكثر أن تؤثر في جزء ما بالمخ، خاص بعصب ما، فتخدره بالقدر الذي يتيح له فرصة الاسترخاء، واستجماع الإرادة، للتغلب على مسببات الألم، فيبدأ الجسم تنشيط المضادات الطبيعية والإفرازات الداخلية التي تساعد الجهاز المناعي وغيره للتغلب على مصدر الداء ومكانه، لقد أحرز العلاج بالموسيقا نجاحاً باهراً، لم يكن في الإمكان تحقيقه باستعمال الأدوية الأخرى، التي تستعمل في مثل هذه الحالات، وكانت أولى النتائج التي حققتها التجارب التي أجراها الباحثون على الإنسان لاكتشاف فعالية الموسيقا وأثرها في تنشيط إفراز مجموعة من المواد الطبيعية، التي تتشابه في تركيبتها مع المورفين، وهي ما تسمى "بالأندورفينات" ويعتقد هؤلاء الباحثون وهم أشهر العلماء في الولايات المتحدة، أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق وتعميم هذا الاكتشاف الخطير، الذي سيحدث تغييراً جذرياً في الآراء المعروفة عن "كيمياء الألم" بفضل "الأندورفينات" التي هي أحد أنواع الهرمونات التي تفرزها الغدة النخامية، وأبرز مراكز تجمعها في اللوزتين، وفي الجهاز اللمفاوي، حيث يحتويان على مجموعة كبيرة من الخلايا التي تفرز هذه الهرمونات. ولم يعد هناك شك أن الألم والمتعة والانفعال، وكثيراً من الأمراض لها اتصال بعمل الأندورفينات، التي اكتشفت عام 1972، والتي اتضح أن الموسيقا تساعد مساعدة جبارة على زيادة إفرازها، ومن ثم علاج الجسم وشفائه من الأمراض، علاوة على أنها تشفي العديد من الأمراض النفسية، وتساعد على إجراء بعض العمليات الجراحية عوضاً عن استعمال المخدر، وخاصة في ميدان طب الأسنان».

وتضيف بالقول: «وبصفة عامة فإن التجارب أثبتت حتى الآن أن زيادة تلك المواد لا تمثل أية خطورة على المريض، فضلاً عما لتلك "الأندورفينات" من ميزة يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وهي أنها وبالمقارنة مع الأدوية الأخرى، عبارة عن مادة طبيعية يفرزها الجسم، ومن المأمول ألا تكون لها أية آثار جانبية، كما هو الحال بالنسبة للأدوية الأخرى التي يتعاطاها المريض، واتضح أن الذين استخدموا هذا الأسلوب أصبحوا الآن يشعرون بأنهم في وضع صحي وحياة أفضل، وربما لا يستخدمون أي دواء، وكثيرون منهم أقلعوا عن عادة التدخين، كما أن الفيزيولوجيين وجدوا مؤخراً أن التأثيرات الفيزيولوجية والفيزيائية التي نحصل عليها من مجموعة التغيرات الكيميائية في الدماغ ليس فقط في قسم التفكير، بل في الجهة المسؤولة عن التنفس والعاطفة والإحساس، والقسم المسؤول عن السيطرة على دقات القلب».

الموسيقا كانت طريقة للعلاج في "دمشق" منذ قرون، حيث كان في البيمارستان النوري قسم للعلاج بالموسيقا، وكان ذلك عام 1180 ميلادي، ولكن هذا الاختصاص تراجع، والآن هو مقتصر على بعض الأشخاص أو المراكز كاجتهاد شخصي على الرغم من أهميته كاختصاص، حيث نجد جميع الدول المتحضرة تعتمد على العلاج بالموسيقا سواء في مراكز متخصصة أم في المستشفيات والمؤسسات بحسب الأهداف والمرضى، وعن ذلك يقول "جمال سامي عواد" الباحث الموسيقي: «العلاج بالموسيقا ليس موجوداً من الناحية الأكاديمية في "سورية"، وليس له فروع في المعاهد والجامعات الرسمية أو حتى الخاصة، وهذه تعد من الفجوات الكبيرة في الرعاية الصحية في بلدنا، وهي ناتجة عن تراجع كبير في الثقافة والفن في مجتمعاتنا الشرقية، لأسباب كثيرة قللت من قيمة هذا الاختصاص الذي لا يقل أهمية عن كثير من الاختصاصات الطبية الأخرى، كما أن الجهات المختصة تأخرت عن متابعة التطورات في العالم في هذا المجال شأنها شأن الكثير من المجالات الأخرى، ولا نجد أثراً لما يسمى "العلاج بالموسيقا" إلا في مشاريع شخصية وخاصة وفي أطر ضيقة محصورة ببعض المؤسسات التربوية الخاصة والرسمية وبجهود شخصية من بعض القائمين عليها، كما هو الحال في "جمعية الربيع لرعاية المصابين باضطراب التوحد" في "حمص"، والمنظمة السورية للمعوقين "آمال" التي تولي الكثير من الاهتمام لهذه الناحية، وأتمنى أن يتم تأسيس معاهد خاصة أو فرعاً في الجامعة الرسمية لهذا الفرع المهم من العلاج، أسوة بالعلاجات الفيزيائية الأخرى».