توافق الأدب والفلسفة، يعني انتصار النقد، الباحث في الظواهر الجديدة العلمية والأدبية، وأهمها ما أفرزته ثورة المعلومات من نظم انعكست على الفرد والمجتمع.

أوضح الأديب "غسان كامل ونوس" عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب لموقع eSyria ذلك بالقول: «صحيح أن الكلام الذي ينشر عبر الشابكة "شبكة الإنترنت" يصل إلى عدد غير محدود من المتلقين في أسرع وقت، وفي أمكنة بعيدة، ربما كان من غير المحتمل الوصول إليها أبداً، ما يؤمن إعلاماً أوسع، وردود أفعال سريعة على حدث معين يعنينا، كما يمكن الردّ والتوضيح والإضافة مرة بعد مرة، وعلى أكثر من متلقٍّ، في جلسة واحدة، وبحرّية مطلقة، من دون خوف اقتطاع أو مقاطعة أو مداهمة، ورغم هذه الفورة في العلاقات، والحيوية في التواصل، والغزارة في المعلومات والآراء، فقد عاد المرء وحيداً، كما كان في العصر البدائي، يشقى في مواجهة عنت الطبيعة وفصولها، ويخاف كائناتها الوحشية أو غير المرئية أشباحاً أو جِنّاً أو آلهة، فعبدها وأسطرها! أي حولها إلى "اسطورة"، وبات الآن في مواجهة الطقوس الجديدة، وأفكار كائناتها غير المرئية، التي لا يقلّ بعضها وحشية، ولا تقلّ نفثاتها إيلاماً، وهو رغم ارتكانه وانكفائه المادي، غير محصّن بإمكانيات حيوية وإنسانية مناسبة، وغير قادر على أسطرة تلك الكائنات العصرية، لأنه غير خائف، وهنا مكمن الخطورة، لكنه معرض لتأثيراتها الجبارة، فهو مفتون، ومُثار، ومأخوذ، ومتسمّر في معطيات شاشته، وقدرات أجهزته التي لم تعد تربطه ساعات في البيت أو المكتب فحسب، بل صارت تلازمه محمولة في حقيبته أو جيبه أو قبضته، فإلى أين المفر؟!».

ومن خلاصات ذلك تتبلور الارتباطات بالأرض والوطن، وتتعزز الرغبة بتطويره وتحصينه وإغنائه والدفاع عنه، بنظرة إنسانية، لا تنظر إلى الآخرين بعدائية أو عنصرية أو نفور، ولكن بإحساس المواطن المنتمي الواثق المشبع، القادر على التعامل مع الآخرين المعروفين صداقة أو خصومة بواقعية ومصداقية

وتابع الأديب "غسان ونوس" بالقول: «لقد انفض حتى عن أفراد الأسرة، ورُفعت عنه الواجبات، حتى الضرورية منها، وانعزل عن صديقه ورفيقه وزميله، ولم يعد لِمجاوِرِهِ في الدار أو المقعد، ذلك القرب وتلك الألفة، وليس لديه فضول للتعرف إليه أو إلى من يقابله عملاً أو مصادفة، وتبادل أطراف الحديث، فهو مشغول بأناس آخرين، وأفكار أخرى، ومُلاحَق بأسئلة أخرى، مترقّب لآراء وردود وتعليقات تغزوه عبر الشابكة "الانترنت"، ومتحفّز للردّ عليها بأحسن منها أو أقسى، وليس صمته هدوءاً أو تأمّلاً بأحواله أو أحوال البشر أو حسن المآل، وصار من الممكن أن يلبي دعوات غامضة، وأوامر عارضة، ينساق إلى جهة بلا تفكّر أو تمحيص، يدخل في معركة بلا تحصّن، والخصم مجهول والفكرة خداعة، والغاية غائمة أو قاتمة، ولاسيما وقد صار لهذا الفضاء أربابه ومتعهّدوه ومتنبّئوه ومسيّروه ومخدّموه ومستثمروه، وهي احتكارات أيضاً في ميادين المعرفة والطاقات والحاجات، وإذا كان التشييء والتجريد من الحواس والمشاعر من صفات الحداثة وما بعدها، فإن تحول المرء إلى أن يكون أسير ترددات وأرقام وكلمات مجردة هائمة في فضاء غير محدود، ليس في صالح إنسانية الكائن العاقل الذي يدوخ في وهج ألسنة الحضارة، الذي يتشتت ويتذرر كالالكترونات التي تدور في ضواحي النواة، لكنه دوران غير منتظم، نتيجة تعدد جهات الجذب، وتأرجحها، واختلاف كتلها وكثافاتها، ما يجعل تلك الكائنات في ضياع، ويعرضها لاصطدامات كارثية».

الباحث الأستاذ صالح سالم نصر أمام مكتبته

ثم يطرح الأديب "غسان ونوس" حلولاً أيضاً بقوله: «ليس معنى هذا أن نغلق أجهزتنا، ونطفئ شاشاتنا، ونبتعد عن هذه الساحة الهائلة الغنية بمعارفها وعلومها وتجاربها وآرائها واختلاطها وتنوعها، ولا الإبقاء على الجهل المعلوماتي كفراً بشروره، أو ترفعاً عن منزلقاته، أو هروباً من تبعاته، لكن التواصل الاجتماعي الطبيعي هام، والتحصين الأخلاقي والمعرفي ضروري، واستمرار الارتباط بالأرض والبيت وأفراد الأسرة والأصحاب والمعارف، مفيد، وأساسي في العيش المشترك، وابتناء الثقة بالنفس والحضور الواقعي في النشاطات والواجبات والملتقيات والندوات والرحلات، مع الاستفادة الأكبر من الاختلاف في وجهات النظر وتعدّد الرؤى في من نعاشر، ونقابل ونرافق كيلا يكون أخوك غريباً، وجارك خصماً، وزميلك عدواً، لا بسبب أفكارهم المخالفة فقط، بل لانتماءات لم يختاروها، نتيجة الاستنفار والتجييش والتحريض، إلى ما يتجاوز الكلمات إلى الصور التي لا يمكن الركون إلى صدقيتها، ولا شك في أن لوسائل الإعلام المتعددة الألوان والمرجعيات والمقاربات دوراً في إثارة الحوارات المنوعة المشتركة، وإتاحة المجال أمام البعيدين والمهمّشين للحضور فيها، ومعرفة اهتماماتهم وتنمية مهاراتهم، ورصد ملامحهم العامة والخاصة، والإضاءة على بيئاتهم وظروفها وحاجاتها، ودعم التوجهات المميزة، وأصحاب الآراء والإمكانيات في العطاء المختلف والسمات المقنِعة والمحببة والصفات الحسنة، وإشهار النموذج الخلاق في مختلف المجالات الزراعية والصناعية والعلمية والخدمية والاجتماعية، وأصحاب المبادرات الإيجابية تواصلاً ونفعاً ومشاركات».

وتابع الأديب "غسان كامل ونوس" بالقول: «ومن خلاصات ذلك تتبلور الارتباطات بالأرض والوطن، وتتعزز الرغبة بتطويره وتحصينه وإغنائه والدفاع عنه، بنظرة إنسانية، لا تنظر إلى الآخرين بعدائية أو عنصرية أو نفور، ولكن بإحساس المواطن المنتمي الواثق المشبع، القادر على التعامل مع الآخرين المعروفين صداقة أو خصومة بواقعية ومصداقية».

الأديب غسان كامل ونوس

ولدى سؤال من يعمل في حقل الفلسفة حول ثورة المعلومات وما أفرزته من نظم جديدة وتأثيرها على الفرد والمجتمع بيّن الباحث والكاتب "صالح سالم نصر" صاحب كتاب "الإنسان كمال الحقيقة المنشودة" قائلاً: «لا بد للباحث في هذا الموضوع أن ينطلق من مفاهيم ثقافية تعتبر توضيحاً للعنوان وهي منهج العلم والتي تشكل المعلوماتية جزءاً هاماً منه، هو حتمية تاريخية لا جدل فيها. المجتمع الذي يجعل من منقوله الماضي كما كان معقولاً لزمانه الحاضر، يكون محتماً خشبياً لا رجاء في نهضته إن لم يغير ثقافته. المجتمع الذي لا يقر بتحويل المجهول إلى معلوم، وبضرورة وجود المجهول للبحث عن المعلوم، وأن ذلك هو سر ولغز استمرار الحياة وتطورها، يكون مجتمعاً جاهلاً متقهقراً متخلفاً عن اللحاق بركب الحضارة المفروضة، وهذا هو حال الشعوب بنسبة عالية في مجتمعنا العربي والإسلامي. إن العلم الوضعي حيادي. إن ملكت ناصيته الأشرار صار شراً، وإن ملكت ناصيته الأخيار صار خيراً. العلم لا يتوقف منتظراً الجاهلين للحاق به، بل هو سائر جنباً إلى جنب مع فرسان البشرية من العلماء لصناعة الوجود وفقاً لقانون الوجود، وعلم الأشرار لا نتقي شره بالدعاء والرجاء، بل نتقي شره بالدواء الذي هو من نفس الداء. علينا أن ندخل في ثقافتنا الشعبية بأن الغرب بنظامه الرأسمالي ذات طبائع شريرة، وامتلك ناصية العلم الوضعي، فصارت تطبيقات هذا العلم وفق هذا النظام شراً يستعبد بواسطته العباد والبلاد».

وتابع الأستاذ "صالح نصر" بمقترح من الحلول بقوله: «أمام هذا الواقع المتخلف ما هي الحلول؟ حلول ملحة تكمن في الوحدة بين أفراد المجتمعات المتخلفة بشكل عام والعربية بشكل خاص، وكافة الأفراد بغض النظر عن انتمائهم القومي للوقوف صفاً واحدا بوجه النظام الغربي للحد من شروره والحفاظ على هيكلية الكيان لهذه المجتمعات، ونشر الثقافة الشعبية العلمية لنعمل قدر الإمكان لخلق مجتمعات فاضلة تعتمد على العلوم الوضعية كي نجعل من العلم خيراً نحارب بواسطته علم الغرب الشرير الذي اكتسب شره من طبائعهم. ومنقولنا بمعنى تراثنا الثقافي ملكنا لا أحد يزاحمنا عليه، ولكن العلوم ليست ملكنا وكل الأمم تزاحمنا عليها فلنتفرغ لها في هذه الزحمة، وهذا لا ينسينا المفاهيم الأخلاقية التي ورثناها إن أردنا ذلك، لهذا علينا في هذه الظروف العصيبة أن نترك ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وألا يلهينا واقع ماضينا عن واقع حاضرنا بمعنى أن نتفاعل مع عقول الشباب ولو استعنا بالأصدقاء من العالم المتحضر، وبدلاً من أن نفرغ طاقات هؤلاء الشباب بالبحوث العلمية نتركها على حالها ولا نكترث بصورة مستقبلها، فنجدها مشغولة بالقيل والقال، وشاغلها وهمها تخريب ذاتها وتخريب مجتمعاتها، وهذا ما يحول طاقاتها العقلية إلى طاقة عضلية، وذلك يقودها للإجرام والقتال الجاهلي الذي سرعان ما ينهزم أمام قوة العقل العلمي».

الأستاذ صالح نصر

وتابع الباحث "نصر" بطرح الحلول قائلاً: «لابد أن ندرك أن أهمية تقنيات المعلوماتية ليست في البراعة في استخدام وسائلها وأدواتها، بل تكمن عظمتها في التمكن من صناعة المعلومة وصناعة الأداة والوسيلة التي تنقلها، والفرق شتان بين الذي يجيد استخدام الحاسوب وبين صانعه، تماماً كالفرق بين صانع الحاسوب ومصمم نظامه، لا ننكر بأن ثورة المعلومات التي دخلت كل بيت والتقنيات المتعلقة بها سكنت في كل الأمكنة في المعمورة، ما جعل من العالم قرية صغيرة وبغض النظر عن السلبيات والإيجابيات، فالمعلوماتية ونقل الداتا حولت الصراع بين طبقة الأغنياء والفقراء إلى صراع بين العلم والجهل، فهذه الحضارة والتقنيات طرقت أبوابنا فلنكن حكماء لفتح الباب لها وإدخالها، وألا نجعلها تكسر الباب وتدمر كل ما في البيت وتدخل رغماً عنا، واللبيب من الإشارة يفهم».