بحضور الدكتورة "نجاح العطار" نائب رئيس الجمهورية، استأنف مؤتمر "العروبة والمستقبل" أعماله لليوم الثاني، حيث تمحورت جلساته حول العروبة والدولة والعروبة والدين، وحاضر فيها مجموعة من الباحثين التميزين من سورية ومن الوطن العربي، على رأسهم الدكتور "حيدر إبراهيم" من السودان رئيساً للجلسة الصباحية، والدكتور "مصطفى الفقي" من مصر رئيساً للجلسة الثانية، وتحدث فيهما الدكاترة: "عبد الحسين شعبان" من العراق، "أحمد ماضي" من الأردن، "حسن حنفي" من مصر، "إبراهيم دراجي" من سورية.

الدكتور "عبد الحسين شعبان" من العراق تناول في محاضرته "العروبة والدولة المنشودة" العلاقة بين العروبة والهوية، وبين العروبة والمواطنة، وعلاقة العروبة بالدولة، موضحا أن عناصر القوة والصلابة والوحدة ما تزال موجودة في صورة العروبة وإن كانت غير منظورة، الأمر الذي يتطلب تفعيل هذه العناصر بأبعادها الراهنة والمستقبلية ثقافياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وتاريخياً ودينياً ولغوياً، في سبيل تحقيق بعض من الطموحات العربية المنشودة مثل التنمية والديمقراطية والعدالة.

إن مراجعة التجربة ونقدها هو السبيل الأمثل لتجاوز عناصر الضعف وتعزيز القدرات بما ينسجم مع التطور الدولي ولاسيما في ميدان التنمية المستدامة وذلك لأنه الأساس المتين للحديث عن عروبة متطورة ودور يعزز وينمّي الشعور بالانتماء إليها

وقال: «إن العروبة كانتماء وجداني وشعوري وعاطفي أمر موضوعي، أي أن يكون شعور العربي عربياً والتركي تركياً والفرنسي فرنسياً.... وهكذا، ولاسيما إذا أردنا نقلها من حيز الأفكار إلى حيز الواقع، كما حصل في القرن العشرين من محاولات لتقليد الفكر القومي الأوروبي، ما حوّل العروبة إلى أيديولوجيا قومية، وأدى إلى إحداث نوع من الالتباس والتشوش بالنسبة لانتماء المواطن، وقاد إلى تعميق إحساسه بالتجزئة والانقسام على الذات، أضف إلى ذلك أن تحوّل الفكرة القومية بوصفها أيديولوجيا إلى نظام سياسي حمل معه الكثير من مظاهر وممارسات الاستبداد والدكتاتورية والتسلط، ونجم عنه ردود فعل لا بخصوص تلك الممارسات فحسب، بل إزاء الفكرة القومية العروبية الوجدانية».

د. نجاح العطار وسط الحضور

وأضاف "شعبان": «إن مراجعة التجربة ونقدها هو السبيل الأمثل لتجاوز عناصر الضعف وتعزيز القدرات بما ينسجم مع التطور الدولي ولاسيما في ميدان التنمية المستدامة وذلك لأنه الأساس المتين للحديث عن عروبة متطورة ودور يعزز وينمّي الشعور بالانتماء إليها».

ولفت إلى أن واقع تطور الفكرة العروبية وضع أمامنا طائفة من المتغيرات الجديرة بالدراسة والنقد، إذ لا يمكن الحديث عن فكرة عروبية دون الحديث عن عملية انبعاث جديدة لتيار عروبي تقدمي، يتمثل بالإيمان بالديمقراطية السياسية، وبالعدالة الاجتماعية، قائلاً: «لا يمكن الحديث عن فكرة عروبية أو قومية عربية دون الحديث عن عملية انبعاث جديدة لتيار عروبي تقدمي بجناحين أساسيين: الأول يتمثل بالإيمان بالديمقراطية السياسية دون لف أو دوران، والثاني بالعدالة الاجتماعية دون ذرائع أو مبررات، ولا يمكن للجناح العروبي أن يحلق دون هذين الجناحين، إذ إن انكسار أحدهما يقود إما إلى الدكتاتورية والاستبداد، أو إلى الاستتباع وقبول الهيمنة، ومن ثم فإن تعطّل أحد الجناحين سيضرّ بالعروبة وبفكرة الوحدة العربية».

د. إبراهيم دراجي

مبينا «أن فكرة الوحدة العربية مسألةٌ محوريةٌ ومفصليةٌ يشترك فيها على نحو وجداني أبناء العروبة من أقصى الخليج إلى أقصى المحيط وفقاً لشعور تلقائي وعفوي بالانتماء إلى المشترك العربي- الإنساني. ولا يمكن للأمة العربية أو حتى الفكرة الوحدوية العربية أن تتقدم من دون التنمية المستدامة المستقلة، كما لا يمكن الحديث عن العروبة دون أخذ مفهوم الحداثة بعين الاعتبار، ولن يتحقق ذلك إلا في ظل سيادة القانون ودولة عصرية قائمة على المواطنة الكاملة وعلى مراعاة شروط المساواة والعدالة والمشاركة، ومثل هذه الحداثة تؤسس على أربعة أركان هي: المدنية والعلمانية والعقلانية والديمقراطية، التي تشكل محتوى وجوهر أي تغيير اجتماعي، ولاسيما في إطار دولة دستورية عصرية حداثية».

واستعرض الدكتور شعبان فكرة نشوء الرابطة العروبية وتعمقها في الوجدان العربي واختلاف أشكال التعبير عنها ولاسيما في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي والدعوات التي صاحبت ذلك من ضرورة العمل على قيام وحدة عربية فورية شاملة أو قيام اتحاد عربي على أساس التقارب السياسي والاجتماعي، ولاسيما بين الأنظمة العربية أو إيجاد دولة المركز الأساس التي يمكن أن تلتف حولها دول وأقاليم أخرى لتشكل دولة الوحدة السياسية والاجتماعية.

جلسة الحوار الثانية

وحول تراجع مسألة الوحدة وأسباب هذا التراجع قال: «تراجعت مسألة الوحدة العربية على نحو مريع، الأمر الذي يتطلب دراسة جدية للأسباب والعوامل التي ساهمت في هذا التراجع، خصوصاً مسؤولية القوى التي حكمت في بعض الدول العربية، والدور السلبي للتيارات الأخرى، مشاركة أم معارضة.

فخطأ الحركة الشيوعية كان في التقليل من أهمية شعار الوحدة الجاذب للجماهير، لأن هذه الوحدة بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الاجتماعية والسياسية هي وحدة شعوب، ووحدة الطبقة العاملة في هذه البلدان.... أما خطأ القوميين العرب ولا سيما الناصريين والبعثيين، وهم أكثر الدعاة تمسكاً بوجوب قيام الوحدة، فقد عملوا بعد وصولهم إلى سدة السلطة بوعي منهم أو دونه على تعميق عوامل التباعد والتنافر بين الدول العربية، ما أدى إلى مزيد من التشرذم والانقسام».

ورأى أن العروبة منذ انطلاقتها المبكّرة وعلى ما فيها من نزعة إنسانية ودعوة للحرية وشعور وجداني لاحترام الآخر والتي ساهم فيها ضباط قوميون عرب وشخصيات تنويرية وإصلاحية، تراجعت بشكل خطير في فترة لاحقة، بسبب بعض الممارسات، مؤكدا ضرورة تعزيز الأخوة وتعميقها بين الأديان والأعراق والنظر بإيجابية إلى التنوّع الثقافي، ما يساعد على إبراز الجانب الإنساني للعروبة ويقلّص النزعات الانعزالية والانفصالية العروبة والهوية.

بدوره رأى الباحث الدكتور "أحمد ماضي" من الأردن في محاضرته بعنوان "العروبة ومسألة الحكم"، أن هذا الموضوع في غاية الأهمية، وينبغي أن يستأثر باهتمام كل عربي حريص على المصالح العليا للأمة العربية، لأنه يتعلق بحياة العربي التي يتعين على الحكم أن يوليه اهتمامه الأول والأخير، مشيرا إلى أن مفهوم العروبة ليس مفهوماً محدداً بدقة، بل إنه مفهوم عام جداً مستشهدا بالمفكر القومي العروبي الأول ساطع الحصري من خلال كتب ثلاثة وهي "دفاعاً عن العروبة" و"العروبة بين دعاتها ومعارضيها" و"العروبة أولاً"، وبالمفكرين "زكي الأرسوزي"، والدكتور "قسطنطين زريق".

وأشار إلى أن العروبة تعني أخذ المصالح المشتركة للعرب بعين الاعتبار، بحيث تكون لها الأولوية من الناحية السياسية، حيث إن الحصري فيما طرحه عن العروبة يعد أكبر من أولى العروبة اهتمامه، وفضلها على كل شيء، حتى إنه رفعها فوق الدين، طارحاً شعار "العروبة أولاً"، ثم شعار "العروبة قبل كل شيء وفوق كل شيء"، ثم "العروبة فوق الجميع"، أي إن العروبة كانت لدى الحصري عقيدة أو مذهباً في الحكم، لافتا إلى أن الحصري كان يؤكد أن فكرة العروبة تواجه مقاومة شديدة وتتعرض إلى هجمات عنيفة، وقد دعا الباحثين إلى وجوب التمييز بين العروبة وبين الشعور بها.

وأوضح الباحث أن الحصري كان لا يشك في أن بدء العروبة يعود إلى تاريخ سحيق في القدم كظاهرة تاريخية ولذلك فإن الشعور والتفكير بها واقعتان حديثتان إذ لم يصبحا محور سياسة واضحة إلا بعد استعمار البلدان العربية بمدة غير يسيرة، مشيرا إلى أن الحصري لم يكن يميز بين العروبة والرابطة الوطنية والقومية، فهو يؤكد أن الراية الجامعة في ضوء كل الاختلافات هي راية الوطنية والقومية أو راية العروبة، وفق تعبيره.

وخلص إلى أن مفهوم العروبة بحاجة إلى المزيد من التدقيق والتحديد والتركيز، وان يعتقد كل مواطن أن العروبة هي هويته بغض النظر إلى أي قطر ينتمي، أي أن يكون عروبياً، ولكي يستحق هذا النعت لا بد من أن يناضل في سبيل حكم ديمقراطي يعنى بالمواطن من شتى الوجوه، حيث يكون هذا المواطن هو شغله الشاغل، وهو هدفه كما هو أداته.

الدكتور "إبراهيم دراجي" من سورية تحدث عن العروبة والتسامح الديني طارحاً فكرة الأقليات ودورها في الفكر القومي، وتأثير الإصلاحيين الإسلاميين، وخاصة العلمانيين، في التعاطي مع فكرة العروبة بمعزل عن الدين، وابتدأ محاضرته بالاستغراب من العرب الذين يتهمون العروبيين باللا عقلانية واللا واقعية قائلاً: «الغريب العجيب أنه في الوقت الذي نعى فيه البعض العروبة وردم عليها التراب ودون أن يكلف نفسه حتى عناء قراءة الفاتحة لها، متهماً دعاتها وروادها ومريديها والمؤمنين بها بعدم الواقعية واللا عقلانية والحديث خارج منطق العصر والتاريخ... في هذا الوقت بالذات نجد أن اوروبا بكل تناقضاتها القومية والدينية والعرقية و..... وبكل خلافاتها التاريخية والحالية والسياسية والاقتصادية، تتجه بقوة وصبر وهدوء نحو الوحدة الشاملة التي سترسخ عما قريب أوروبا الموحدة.

فلماذا يعتبرون وحدة أوروبا، المقسمة والمجزأة أساساً، واقعية وعقلانية وحلماً قابلاً للتطبيق، فيشيد الكثير من العرب بتلك الخطوات الوحدوية الأوروبية ويطلبون زيارة عواصم صنع القرار الأوروبي للاطلاع على تجربتهم والاستفادة من خبرتهم، ثم يستكثرون علينا في الوقت ذاته مجرد أن نجتمع ونتحدث ونحلم بتوحيد هذه الأمة العربية المتكاملة إلى حد كبير؟ معتبرين أن العروبة ليست أملاً منتظراً ولا حلماً قابلاً للتطبيق، بل كابوس مرعب يتعين علينا أن نصحو منه ونهجره إلى الأبد».

ولفت الدكتور "دراجي" إلى أن التلاعب بفكرة الأقليات الدينية والإثنية مازالت الفكرة الأكثر خطراً يطرحها الغرب ويتبنى تداعياتها ويدعم أطرافها للتأثير على أصحاب القرار من جهة، وزرع بؤر التفرقة والتناحر والتباغض من جهة أخرى، وكذلك إلهاء مختلف الفئات بأمور جانبية تبعدهم عن التفكير والسعي لتحقيق وجودهم في دولة واحدة موحدة ذات شأن، تراعي مصالحهم ومصالح أبنائها في إطار من المصلحة العامة والتآخي بين الجميع.

وأشار المشاركون في مداخلاتهم إلى الحاجة لبلورة منظومة من المصالح المشتركة لمواجهة مفاهيم ومحاولات التفتيت، وإسقاط ما هو سائد من مفاهيم في معظم الدول العربية من أن المواطنة على درجتين، والحاجة إلى مراجعة كتاب العروبة لان هناك ومضات وكتابات تكرس العروبة.

وأكد المشاركون أن احد أهم مقومات التلازم بين العروبة والدولة هي الخدمات التي تقدم للمواطن، وانه لا يمكن بناء الدولة إلا بالتأسيس لمجتمع معرفي، موضحين أن العروبة والإسلام تثير إشكالية لابد من تصدي العاملين في المجال الفكري لها، لأنها تعيق بناء الهوية.