دونت "غزة" وأهلها صفحات جديدة في التاريخ المعاصر تروي لكل الأجيال القادمة قدرة الصمود أمام أعتى جيوش الأرض وأكثرها وحشية على الإطلاق، والعالم اليوم كله مشدود إلى "غزة" ومشغول بما يجري فيها من بطولات وتضحيات.. وفي المقابل فإن التاريخ ذاته سيسجل مجزرة أخرى ارتكبها الكيان الصهيوني المغتصب بحق شعب أعزل أراد الحياة ودافع عنها.

وتعتبر "غزة" من أقدم مدن العالم المأهولة عبر التاريخ وتشير الدراسات إلى وجودها منذ الألف الرابعة قبل ميلاد السيد المسيح، ويُقال إنها رابع مدينة بنيت على وجه الأرض.‏

إنها بلدة متوسطة في العظم ذات بساتين على ساحل البحر وبها قليل من نخيل وكروم خصبة، بينها وبين البحر أكوام رمال تلي بساتينها ولها قلعة صغيرة

وهناك العديد من الروايات التي تحاول أن تفسر معنى اسم "غزة" فمنها من رأى أن "غزة" جمع غازي والغزى والغزاة..، ومنها من رأى أن لفظة "غزة" لغوياً تأتي بمعنى "قوي، منيع، صامد".

المقاومة حتى النصر.

ويقول "ياقوت الحموي" في كتابه "معجم البلدان": «غز فلان بفلان واغتز به إذا اختصه من بين أصحابه»، وورد عند "الحموي" أن "غزة" هي امرأة "صور"، بينما ذكر "الدمشقي" أن "غزة" مدينة كثيرة الشجر.‏

ويقول "ابن حوقل" عن "غزة": «إنها بلدة متوسطة في العظم ذات بساتين على ساحل البحر وبها قليل من نخيل وكروم خصبة، بينها وبين البحر أكوام رمال تلي بساتينها ولها قلعة صغيرة».‏

يقتلون البشر والشجر والحجر

ولقد وردت "غزة" في الآثار المصرية القديمة باسم "غازاتو وغاداتو"، وأسماها الكنعانيون "هزاني"، والأشوريون "عزاتي"، بينما أطلق عليها الفرس اسم "هازاتو"، واليونانيون "ايوني ومينودا وقسطنديا"، والعبرانيون اسم "غرة"، وسمّاها العرب "غزة".‏

ومن الثابت أن "غزة" مدينة كنعانية عربية قديمة منذ ما قبل التاريخ استوطنها العرب العويون والكفتاريون والعناقيون والمديانيون والآزوميون والعموريون والكنعانيون، إلا أن ثمة إجماعاً على أن "الكنعانيون" هم أول من سكنوها وحافظوا على وجودها وتركوا بصماتهم على تاريخها الطويل.‏

وفي تاريخها العربي محطات كثيرة يصعب الوقوف عندها وقد مرت عليها غزوات وغزوات وانتصرت في نهاية الأمر على الطغاة الغازين، لم تستكن لمحتل أو غاصب بل لفظتهم أرضها، وآخر مآسيها مع الاحتلال هو الاحتلال الصهيوني لها الذي كان في عام 1948 فلم تهدأ طويلاً حتى بدأت بانتفاضة ضد الصهاينة.‏

ورغم أن "قطاع غزة" نجا من نكبة "فلسطين" التاريخية عام 1948 العام الذي قام فيه الكيان الإسرائيلي على القسم الأكبر من مساحة فلسطين التاريخية، إلا أنها اليوم وبالمحرقة الصهيونية الأكثر استهدافاً لإسكات مقاومتها الباسلة ضد الاحتلال الغاصب، واستقبل "قطاع غزة" عددا كبيرا من اللاجئين الفلسطينيين إثر النكبة ومع التزايد الكبير لسكان القطاع ارتفع مجموعهم ليصل نحو مليون ونصف فلسطيني عام 2008 منهم نحو 76 بالمئة من اللاجئين الذين ينحدرون من "بئر السبع" ومدينة "يافا" و"المجدل" و"عسقلان المحتلة".

ويعتبر مجتمع "قطاع غزة" فتياً نظراً لنسبة الأطفال العالية التي تصل إلى أكثر من 50%، ونتيجة سياسات وممارسات الاحتلال الإسرائيلي على مدار أربعين عاما تفاقمت الأوضاع الديموغرافية والاقتصادية فوصلت معدلات البطالة نحو 60 % من قوة العمل، وكذلك انتشرت حالات الفقر المدقع بين ثلثي سكان القطاع جراء الحصار والاعتداءات الإسرائيلية.

واكتسب موقع مدينة "غزة " الجغرافي أهمية خاصة من خلال وجوده على أبرز الطرق التجارية بالعالم القديم تلك التي بدأت من حضرموت واليمن وانتهت في بلاد الهند،‏ وكان لموقع غزة المتميز على حافة الأراضي الخصبة الأثر في وجودها وبقائها وأهميتها، فهي المحطة الطبيعية لكل من القادمين من مصر ووجهتهم إلى بر الشام، كما أنها المحطة الأخيرة لكل قادم من الشام ووجهته مصر، وعلى الرغم من الانسحاب الإسرائيلي وتفكيك المستوطنات الصهيونية من قطاع غزة في عام 2005 تحت ضربات المقاومة بعد احتلال مديد.. إلا أن إسرائيل جعلت منه سجنا كبيرا لأكثر من مليون وخمسمئة ألف فلسطيني باتوا عرضة لعملية تقتيل واغتيال وتدمير يومية مبرمجة.‏

وتشير الدراسات إلى أن مدينة "غزة" القديمة بنيت على تل يرتفع زهاء /45/ مترا فوق سطح البحر وأنشئت قبل ميلاد "السيد المسيح" عليه السلام بثلاثة آلاف عام، وتطور عمران المدينة أسفل التل من نواحي الشمال والشرق والجنوب ولم يمتد باتجاه الغرب إلا أخيراً فأصبح موضعها الطبوغرافي يتألف من:

الموضع القديم.. ويشغله جزء من حي الدرج وجزء من حي الزيتون‏

مواضع التوسع في جهات الشرق والشمال والجنوب من التل وتضم أحياء "الشجاعية والتفاح" وجزءا من حي "الزيتون" وتتميز تلك المواضع بانبساط أرضها التي ترتفع حوالي /35/ مترا عن سطح البحر جنوبي شرق المدينة

موضع الامتداد نحو الغرب ويتألف من كثبان رملية غرست الأشجار في بعض أجزائها لصد زحف الرمال وأصبح اليوم يعرف بغزة الجديدة أو حي الرمال.‏

وتبين الأرقام إلى أن "قطاع غزة" قدم أكثر من ألف شهيد خلال الانتفاضة الأولى وألفي شهيد خلال انتفاضة الأقصى فضلا عن عشرين ألف جريح بينهم آلاف من الحالات باتت في إعاقة دائمة وخارج النشاط الاقتصادي.‏

لكن الثابت أن أهل "غزة" كما تاريخها عصي على الانكسار وثابت في مواجهة الغزوات.. والاحتلال الإسرائيلي اليوم ورغم المجازر الوحشية التي يرتكبها وقتله للحياة من بشر وشجر وحجر.. إلا أن التاريخ سيقول كلمته يوماً وستبقى غزة ومن فيها عصية على الغزاة مهما تمادوا في القتل والتدمير.