كانت الحكاية الشعبية من أبرز الوسائل لإيصال أفكار معينة فيها الفائدة والتسلية، فاعتادت المقاهي ومنذ القدم وجودها الدائم ممثلة بـ"الحكواتي"، وهذا التقليد أصبح مع مرور الوقت أساسياً ولا يمكن الاستغناء عنه، يقابله في البيوت لقاءات النسوة وحكايات الجدّات.

مدونة وطن "eSyria" زارت بتاريخ 12 تشرين الأول 2015، مقهى "النوفرة" في "دمشق"، والتقت الحكواتي "أحمد اللحام" الملقب "أبو سامر"؛ الذي تحدث لنا عن رواية القصص التراثية، ويقول: «كنت أرافق خالي عندما كان يذهب ليروي القصص في المقهى، وتعلمت هذه المهنة منه، وأصبحت أمارسها كهواية إضافة إلى عملي الأساسي بحرفة الموزاييك، وأغلب الناس يحبون سماع القصص لأنها عبارة عن فلكلور وطقس اعتاده أهل الشام منذ القدم، وهناك العديد من القصص التي تعاد وتروى في المقاهي؛ مثل قصة "الملك سيف بن ذي يزن"، و"أبو ليلى المهلهل"، "الملك الظاهر بيبرس"، لكن أكثر قصة رواجاً في "دمشق" هي "عنترة" التي تجمع في القيم التي تطرحها الرجولة والنخوة والأخلاق المحببة، وتلك القصة لم تتغير وتقرأ من المجلدات الأربعة المطبوعة منذ أكثر من مئتي عام، والشيء المميز فيها طريقة سرد أحداثها لكونها متسلسلة ومناسبة للأشخاص متابعي القصة، وللذين يمرون مروراً سريعاً من دون أن يكونوا متابعين دائمين لها، ويكتفون بالاستماع إلى جزء من القصة، وأخذ العبرة حتى من الجزء الذي سمعوه فقط».

القصص التراثية هي خلاصة لما مكث في الوجدان لكن بعد غربلة طويلة، وهي لم ولن تروى بالطريقة ذاتها مرتين لكونها متعددة الروايات، مع أن الموضوعات متكررة حتى على لسان القاص نفسه اعتماداً على ردة فعل الجمهور ومزاجه وطبيعة المناسبة، وهكذا يصبح الجمهور مشاركاً بصناعة النص، وهو ما يوضح وجود نسخ باللهجات المحلية للبيئات المختلفة، وأنا أجزم أن السير الشعبية خلقت للتسلية وسد الفراغ لدى الجمهور المتعطش للجوانب الروحية إضافة إلى الإثارة والتشويق

ويضيف: «يعد "الحكواتي" اليوم نافذة تاريخية وواسطة نقل ما بين الماضي والحاضر، لكن بأداء منمق ولبق يتناسب مع المجتمع الموجود فيه، وعندما أروي القصة أقوم بتغيير طبقة صوتي حسب تفاعل الحضور معي، وعندما يدخل شخص جديد أثناء إلقائي لأحداث القصة أقوم بالرد المناسب بالمستوى المناسب من طبقة الصوت، وهذا ما يميز أي "حكواتي" عن آخر من ناحية الأداء والإلقاء وشد انتباه الناس له.

الحكواتي أحمد اللحام

والجمهور عبارة عن شريحة متنوعة من مختلف الطبقات التي تحب سماع هذه القصص أو لكسر الملل ومتابعة الشيء الطبيعي وغير المصطنع، ومهما تنوعت طرائق تناول القصة الواحدة وعرضها، يبقى لكل منها نكهته المميزة، وخاصة مع التفاعل الجميل عند رواية القصة بإحساس وصدق واستماع الحاضرين بانتباه، فهذه الخاصية لا تحقق في أي وسيلة أخرى».

والتقينا أحد أكثر المتابعين للقصص التراثية "صالح أحمد الرباط" ويقول: «منذ تأسيس مقهى "النوفرة" والحكواتي شيء أساسي فيه، وهو المقهى الوحيد الذي حافظ على هذا التراث، وعند وجوده يزداد الإقبال؛ فجزء من رواد المقهى يحضرون عند موعد القصة لسماعها، وإذا حضر أحدهم مصادفة يسأل عن أوقات وجود الحكواتي لكي يتابع القصة، وبالنسبة لي أعلم أن في هذه الساعة لدي موعد لمتابعة القصة مع "الحكواتي"، علماً أنني أعرف القصة ومع ذلك أحب متابعتها، ربما بحكم العادة أو الحنين إلى الماضي والأصالة، فالقصة توجه وتعطي العبرة والفائدة بطريقة غير مباشرة، وهو ذات أسلوب الجدات بتوجيه أحفادهن».

صالح الرباط

أما الباحث "محمد فياض" فيقول: «تمثل السير الشعبية مرحلة مهمة من مراحل تطور الأدب الشعبي التي اشتدت فيها الدعوة للدفاع عن الشرف والمروءة وكذلك الديار والمحبوبة، وغير ذلك من مفردات الحياة الشعبية البسيطة؛ ومن الواضح أن القصة موجودة بالتراث العربي لكن بروايات مختلفة، واحتوائها على المبالغة المفرطة، إضافة إلى عنصر التشويق والإثارة التي لا تتفق مع الحقيقة والواقع، ومؤلفو هذه السير غير معروفين، ولا شك أنهم يمتلكون الخبرة ولديهم إلمام بأحوال الأمصار المختلفة، واسترسال الراوي في سرده للأحداث التي تختلط بالواقع، واختياره لشخصياته بطريقة مدروسة يمكنّاه من التحرك والانسجام مع العالم المحيط به، وبمرور الزمن تحولت هذه الشخصية المنغرسة بالوعي الشعبي إلى رمز وأسطورة وربما تفوق الوثيقة التاريخية».

ويتابع: «القصص التراثية هي خلاصة لما مكث في الوجدان لكن بعد غربلة طويلة، وهي لم ولن تروى بالطريقة ذاتها مرتين لكونها متعددة الروايات، مع أن الموضوعات متكررة حتى على لسان القاص نفسه اعتماداً على ردة فعل الجمهور ومزاجه وطبيعة المناسبة، وهكذا يصبح الجمهور مشاركاً بصناعة النص، وهو ما يوضح وجود نسخ باللهجات المحلية للبيئات المختلفة، وأنا أجزم أن السير الشعبية خلقت للتسلية وسد الفراغ لدى الجمهور المتعطش للجوانب الروحية إضافة إلى الإثارة والتشويق».

الباحث محمد فياض

بينما رأى الكاتب "منير كيال": «هناك فرق ولا بد من التمييز بين القصة الشعبية وقصة الوقائع، فالقصة الشعبية تمثل الأسرة وهي انعكاس للواقع والمجتمع، وتصور جانباً من جوانب الحياة، والظروف التي كانت موجودة في ذلك الوقت، فهي عبارة عن "حدوتة" بسيطة تؤلفها إحدى النسوة لإيصال فكرة ما أو لقول شيء ما أو لتوجيه "كنّتها"، وهي طريقة تستخدمها "الكنّة" كذلك للرد على "حماتها" بأدب، بينما قصة الوقائع لا تمثل حياة الناس فهي وقائع وأحداث تصورها الكاتب أو قد تكون جرت بالفعل من قريب أو بعيد، وهي تروى في المقهى ضمن مجالس الرجال، وبالنسبة لي كل الكتب التي ألفتها وخاصة "إيقاعات دمشقية" سردتها بإطار الحكاية الشعبية، لأروي ما عاشه الإنسان وما مرّ به من أحداث».