السلق، والتنميش، والجرش من مراحل صناعة مادة "البرغل" الغذائية المستخرجة من القمح، وهي من عادات وتقاليد أهل مدينة "النبك"، حيث تتم المسامرة بين القتيات اللواتي يقمن بالصنع، وذلك بموجب دعوة بعضهن على سلق البرغل المترافق صنعها مع الأهازيج والأغاني التراثية، والتكافل الاجتماعي.

موقع eSyria التقى في مدينة "النبك" المعمر "جرجس مرشاق" الذي تجاوز منتصف العقد الثامن من العمر فأوضح كيفية صنع وسلق مادة "البرغل" قائلاً: «متى انتهى الشغل خارج المنزل تشرع بعض نساء البيت في طلي السطوح وتبييضها "بالحوار" والبعض الآخر يصولن الحنطة، فتملأ المرأة طستاً كبيراً من النحاس بالماء، وتأخذ في الغربال الضيق الثقوب كمية من الحنطة وتغطسه في الطست وتهزه هزاً خفيفاً، فتطفو الحنطة ويرسب الحصى والتراب والرمل في أسفل الوعاء، فتلتقط المرأة الحصا بملعقة من الخشب وتضعها جانباً، وتضع الحنطة في محل آخر فتنقلها الصبايا على الفور إلى السطوح وتفرشها لتجف جيداً في الشمس، ومتى جفت يجمعونها ويدخرونها للطحن حتى نهاية السنة».

متى انتهى الشغل خارج المنزل تشرع بعض نساء البيت في طلي السطوح وتبييضها "بالحوار" والبعض الآخر يصولن الحنطة، فتملأ المرأة طستاً كبيراً من النحاس بالماء، وتأخذ في الغربال الضيق الثقوب كمية من الحنطة وتغطسه في الطست وتهزه هزاً خفيفاً، فتطفو الحنطة ويرسب الحصى والتراب والرمل في أسفل الوعاء، فتلتقط المرأة الحصا بملعقة من الخشب وتضعها جانباً، وتضع الحنطة في محل آخر فتنقلها الصبايا على الفور إلى السطوح وتفرشها لتجف جيداً في الشمس، ومتى جفت يجمعونها ويدخرونها للطحن حتى نهاية السنة

وتابع المعمر "مرشاق" بالقول: «أما القمح الذي يسلقونه "برغلاً" فيأخذونه من المصول رأساً إلى "الجعِيلة" ("الخلقين"، وهي مرجل كبير من النحاس أو الحديد)، التي يبنون لها موقداً من اللبن في ساحة متوسطة من الحي ليسلق أهله برغلهم فيها، فتدعو المرأة جاراتها وأقرباءها وأصحابها، تأتي الصبايا قائلات: "عالبركة سلاقكم" فيجيبها أهل السلق "حلت البركه" أو "النوبه حلت البركة" أو "هلق حلت البركة"، ويعنون "بالنوبه" و"هلَّـق": الآن، ويذهب قسم منهن لجلب الماء من النهر، وقسم ينقل الحنطة من البيت إلى الخلقين الذي يسع من ثمانية إلى الثمانية عشر مداً، أي 144 إلى 324 كيلو غراماً، وينقلن الحنطة على رؤوسهن في قفف أو أطباق نحاسية كبيرة وتشعل إحداهن النار تحت الخلقين وترمي فيها وقيداً من الشيح والقصل مدة نحو ساعتين حتى ينشف الماء أو يكاد وينتفخ القمح، فيضيفون إليه من الماء ما يلزم حتى تنضج الحنطة جيداً فيبطلن حينئذ "الوقيد" ويتركن القمح يغلي رويداً فوق تلك النار الهادئة "ويتهدى" كما يقولون، وتجلس النساء حول الخلقين ومعهن الصبايا يتحدثن، ويكثر مرور الشباب من هناك وقتئذٍ فتكلفهم النساء أن يقلبوا ما في "الجعيلة" رأساً على عقب بالمنشل الذي يسمونه "مشلاة" أو "مشلي"، وهو عصا بطول متر ونصف تقريباً، وفي طرفها قطعة من نحاس مستديرة لها ثقوب، وكثيراً ما يجلس الشبان بينهن لأداء هذه الخدمة، ينتظرون نضج الحنطة الذي يتطلب ما لا يقل عن أربع أو خمس ساعات، ويتسابق الشبان إلى السطوح وبعضهم إلى "المشلاة"، فتأتي الفتاة بطبقها وتضعه على دعامة من لبن مرفوعة إلى جانب الموقدة عن يسار الشاب، فيغرف هذا "بمشلاته" من الحنطة المسلوقة ويضع في الطبق ما تقدر الفتاة على حمله، ويساعدها على رفعه إلى رأسها، فتحمله وتصعد به سلماً من الخشب ذا 15 أو 20 درجة، ويكون الشاب الثاني واقفاً في أعلى السلم على السطح، فيأخذ الطبق عن رأسها بين يديه، ويذهب به إلى السطح ويفرغه كومة واحدة ويعيده إلى الصبية، وهكذا بين أخذ وعطاء يكون قسم من البنات يعمل لجلب الحِنْطة من البيت وقسمٌ لجلب الماء من النهر، فإذا كان ذلك ليلاً رافقهن شابان أو ثلاثة إلى النهر حتى لا يخفن، ويكررون العمل السابق كله حتى تسلق العيلة كفايتها، وبعدها يمنعون الحضور من الذهاب إلى بيتوهم ويأخذونهم إلى البيت حيث يقدمون لهم القمح المسلوق وعليه السكر الناعم أو الدبس وقلب الجوز وبزر القنب المحمَّص، ويقدمون الخبز والجبن والعنب والتين والزيتون، فيأكلون جميعاً، ثم يذهب كل واحد إلى بيته قائلاً: "عقبال كل سنة"، فيجيبه أهل البيت "وأنتم سالمين، الله يسلم دياتكم"، وبعد قليل تصعد صاحبة البيت إلى السطوح وتفرق كوم القمح المسلوق وتفرشها على السطح كله، وتثابر على تحريكه كل يوم في الصباح والظهر وعند العصر، فيتقلب، وتجعله خطوطا، ويسمون هذا العمل "تثوير"».

المعمر جرجس مرشاق

وعن مرحلة تنميش وجرش البرغل والتي تحتاج إلى أيام عدة حيث تتم العملية مترافقة مع أغاني وأهازيج يوضح ذلك شاعر الرباب المعمر"مصطفى غنام غنام": «بعد خمسة أيامٍ أو ستة، يصعدون الماء إلى السطوح صباحاً ويتركونه في الشمس إلى الظهر فيسخن، ويجمعون القمح المسلوق في أطباق ثم يصبون الماء فوقه، وتفركه النساء بالأيدي حتى يتبلل وتنفصل قشوره عن لبه ويعدن فيفرشنه على السطح ثانية ويتركنه يومين أو ثلاثة أيام، ويسمون هذا العمل "تنميشاً"، وهو يساعد على إزالة القشرة الرقيقة عن البرغل، وبعد ما يجف جيداً ينزلنه إلى البيت من "روزنة" أي كوة في السقف معدة لهذه الغاية، ثم تبدأ في اليوم التالي عملية جرش البرغل حيث تذهب المرأة أو ترسل إحدى بناتها تدعو النساء والصبايا إلى الجرش، وتكون قد أعدت من ثلاث إلى خمس "جوارِيش" في غرفة كبيرة إلى جانب البرغل، فتضع تحت كل "جاروشة" قطعة من القماش أو الجلد تقي بها الأرض من الرحى، وبقربها طبقاً من نحاس مملوءاً قمحاً مسلوقاً، فما يأتي أول الليل حتى تتوارد النساء والبنات، فيجلس كل ثلاثة أشخاص حول "جاروشة": إما شاب وفتاتان، أو فتاة وشابان، وقل أن يوجد حول الجاروشة ثلاثة من جنس واحد، ما لم يكن الشبان من حي بعيد عن الحي الذي يصير فيه الجرش، فيقعد الواحد منهم ويطوي رجله اليسرى ويمد رجله اليمنى، أو بالعكس، فيحتضن الجاروشة، وكذلك الآخران، فتصبح الجاروشة بينهم وهم حولها كالسوار حول المعصم، ويقبضون على رائدها ويديرونها ويناط أمر إلقاء القمح السالم في حلقومها بمن هو قريب إلى الطبق ويُحسن العمل، ويأخذ الثلاثة يديرونها ويغنون الأغاني المطربة، "كالموليا والدلعونا والعتابا وهيكالو" وما يكون جديداً ورائجاً من الأغاني، ومعظمها تغزل وعتاب ومدح ووصف وحماس وفخر، وباقي الشباب والصبايا جالسون في ناحية من الغرفة ينتظرون فراغ جاروشة لكي يستولوا عليها فيجرشوا كما جرش غيرهم، ثم يذهبون إلى جرشٍ ثانٍ وثالث ورابع، قياماً بالواجب أو تسليفاً، لأن الجرش سلفة ووفاء».

وتؤكد الشاعرة "ثناء القادري" تلك العادات بدعوة الفتيات بقولها: «على الفتاة ألا تأتي إلى الجرش ما لم يدعها أهله إليه، خلافاً للشاب فإنه مباح له أن يدخل إلى أي جرش كان، وفي أغلب الأحيان يتسابق الجارشون إلى إفراغ طبقهم "وطبّه" على رؤوس غيرهم من الجارشين المقصرين، أما النساء فيأخذن البرغل المجروش من حول الجواريش ويغربلنه بغربال مخصوص في زاوية من زوايا الغرفة ويعدن الحبوب السالمة التي لم تجرش بعد إلى أطباق الجارشين ويسمون هذه الحبوب المرتجعة "سرادة"، ومتى انتهى كل ما عندهم من البرغل يأتون بالعنب والتين والبطيخ والجبن مع الخبز إلى الذين ثبتوا في العمل إلى الآخر، فيأكلون ويذهب كلٌ إلى بيته، ما عدا بعض الشبان الذين يذهبون على بيت آخر لا يزال أهله يجرشون، وكثير منهم كانوا يبقون في الجرش إلى ساعة متأخرة من الليل، وبعدما يأكلون "السهرية" يذهبون إلى دورهم ويستصحبون حالاً دوابهم، فيمضون إلى الحقل ويبذرون الحنطة أو الشعير ويردون عليها التراب ويسمون هذا العمل "رِداد"، ثم يرجعون قبل الظهر إلى بيوتهم فيتغدون وينامون إلى ما بعد العصر، ثم يتفقدون دوابهم وعدة فلاحتهم فيصلحون ما يلزم إصلاحه ويذهبون مساء إلى طريق "الملايات" وهكذا تنتهي مراحل صناعة البرغل الذي يعد المادة الغذائية الأساسية في مدينة "النبك" وخاصة للولائم الكبيرة».

مصطفى غنام غنام
ثناء القادري