جال كثيراً في بلدان الاغتراب, من فيينا إلى مدريد وواشنطن،حمل في قلبه وطنه الأم سورية ومدينته الجميلة الخضراء القامشلي، آثر أن ُيعرف عند أهل تلك البلاد باسم(مالفا)،لم يبتعد عن جذوره الممتدة في الضوء وفي تراب سورية التي أحبها.

منذ أيام حط الرحال في دمشق الحضن الواسع لجميع أبنائه، أطل مالفا على جمهوره من خلال معرضه في بيت الفن، تحدث للجميع عن تفاصيل الغربة وحركة الريشة في القلب وعلى اللوحة،قدم جديده لعشاق الفن، فكان الإقبال الكبير والأحاديث الممتعة مع جمهوره الواسع في عموم أنحاء سورية نظرا ً لتجربته الفريدة التي جعلته واحدا ً من الكبار على خارطة الفن العالمي.

يقول (مالفا)" أرسم من أجل طفل يعيش بسلام ويكون له جذور، فمن ليس له جذور ليس له وطن،والفنان هو الذي يستطيع أن ينبت وينّمي هذه الجذور".

يجد (مالفا) أن الحديث عن الفن كالحديث عن حالة الرسم والعشق التي تزيد ارتباط الإنسان بالجذور وأي زخم يحمله من روح وطنه يُضاف إلى زخم ثقافته الأولى

وثقافته الجديدة في المغترب، وهذا هو السر الذي سّهل وجوده في الغرب حتى باتت الكرة الأرضية كلها وطن الإنسان طالما يحمل في حقيبته المحبة والسلام من سورية،هكذا تبدو المسألة لحمدي.

رغم اغترابي الطويل ..جذوري سورّية

(مالفا) القادم من بلاد الثلج والضباب يؤكد أنه يحمل حنينا ً للأم الأولى وشوقا ً للحرية والفضاءات الواسعة وحقول القمح والزيتون على امتداد سورية، جاء ليعبر عن انتمائه للوطن بطرق عدة "للجذور السورية في ذاتي رائحة خاصة وتفاعل خاص أتأملها بطريقة خاصة من نافذة شقتي التي تطل على شارع جميل لكنه ليس كحقول قريتي وبالتالي فمن المستحيل تبديل اللون الذي تكوّن لديّ عن وطني بأي لون غربي لأن الوطن يعني بالنسبة لي الأم والشجرة المثمرة ورغيف الخبز ومعزوفة الناي التي أتذكرها منذ طفولتي".

يحمل معه كل هذه التفاصيل في غربته، فزخم الألوان في معارضه نابع من ألوان الوطن في الذاكرة التي تحتفظ بأدق التفاصيل وبمخزون بصري شرقي يتجلى

في مادته الغربية خاصة في العمل التجريدي، إضافة إلى ذلك فإن للون علاقة بالقضايا التي يتناولها بريشته لأنه ليس من الفنانين الذين ينتظرون قضية ً أو حدثاً ليرسموها بل انه يخزّن في ذاكرته كل شيء جميل ليستخدمه في عالمه الحر على اللوحة.

جدلية الفن والسياسية

ثمة ارتباط واضح بين السياسة والفن من جوانب عدة لدى (مالفا)، لكن لغة الطرح تختلف،فالأحداث التي تجري في العالم يعيشها حمدي ويخزّنها ليعالجها بطريقة فنية أكثر قدرة على التأثير عند حدوثها،" يمكن إضافة الكثير من التفاصيل لتكتمل الصورة، فعندما نرسم صورة طفل ُيقتل فإننا بكل تأكيد نستعين بالذاكرة لندخل إلى تفاصيل معاناة الإنسان والظلم والعدوان،وبهذا يكون العمل الفني نتاجا ً حضاريا ً وإنسانيا ً وشاهدا ًعلى عصره ومواكبا ً لمجريات التاريخ والحياة" .

تاريخنا غني ولدينا مؤهلات التفاعل

(مالفا) من الذين ربط بين فهمه للتاريخ وإبداعه الفني من خلال ريشته وذهنه وثقافته التي ُتجسد تاريخا ً يمتد لآلاف السنين، لذلك" فأي حدث سواء أكان عالميا ً أو محليا ً هو جزء من إنسانية الفنان، ومن هنا تتكشف لنا أزمة الفن العربي بأننا لا نعرف جيدا ً اللغة والأدوات التي من الممكن أن نتصل من خلالها مع العالم ونصل صوتنا وعدالة قضايانا إلى الرأي العام الدولي، وهذه المسألة تتطلب منّا جهدا ً أكبر في المستقبل".

وأزمة الإبداع الفني عند (مالفا) لا تنفصل عن البيئة الراهنة، فهناك حروب وأزمات اقتصادية ومشاكل بيئية،كل هذا يلقي بثقله على تفكير الفنان العربي بعكس الفنان الغربي الذي يجد نفسه في أجواء مريحة، وعلى هذا الأساس فإن "الإبداع العربي في المغترب مختلف إلى حد ما عما هو في الوطن، هذا الاختلاف يكون بالتداخل أو المزج مع الآخر، رغم أننا في الشرق لدينا مؤهلات كثيرة يمكن أن تصنع التفاعل الحضاري في المناخات الهادئة،والجزء الأكبر من مسؤولية هذا التفاعل يقع على عاتق الفنان خاصة أننا أمام هجمة على خصوصيتنا الشرقية وقيمنا الممتدة في الجذور، فالذي لا يقوم بهذه المهمة لا يستمر ويصبح على الهامش".

طفولة مالفا .. معاناة ولدّت الإبداع

بدايته كانت من قريته (تل نايف) في محافظة الحسكة، بداية كانت صعبة حقا ً حيث

منعه والده من الرسم، إلا أنه رفض وعمل بالسر وغامر حتى يصل إلى شيء مما كان يحلم به من خلال ريشته.

وبعد هذا المشوار الطويل مع الريشة، يتذكر (حمدي) من أيام طفولته ما كانت تقوله له والدته (نوره)، فحين سأل والدته عن ظروف ولادته وطفولته كان جواب الوالدة يقول حمدي " ولدتَ في آخر الليل، في الشتاء، في بيت من طين، سقفه من خشب، في قرية (تل نايف)،وكانت الغرفة مقسمةً إلى جزأين، واحد للنوم، وآخر للغنم، لم يكن والدك موجوداً، كنتُ سعيدة بكَ، كنتَ وسيما ً، أرضعتك أكثر من سنة، في النهار كنّا مع الغنم، وفي المساء ننام".

ويتذكر (حمدي) السنوات الأولى من طفولته " لم تكن القرية كبيرة، فقط عدة بيوت معزولة كانت القرية آنذاك تتألف من ثلاث أو أربع عائلات، تعيش حياتها على الغنم والقمح، كنتُ حافياً، أرتدي رقعاً من ثيابٍ خيَّطتها والدتي بيديها ، كنتُ ألعب مع الأغنام والعقارب".

ويضيف (حمدي) أنه "ذات يوم ذهب والدي إلى الحسكة وأحضر لوحاً مدهوناً بالأسود وطباشير بيضاء، وبدأ يعلمني الكتابة والقراءة لأنه لم تكن بعد في القرية مدرسة، فكان يضربني عندما أرسم بالطباشير على تلك اللوحة، أثناء غيابه".

طفولة لم تحمل في صفحاتها معاني البسمة أو الفرحة" عشت ظروفا ً قاسية أثناء طفولتي وواجهت المسؤولية في مرحلة مبكرة وقمت بحرق أولى لوحاتي التي حملت عنوان "الحصاد " لأن نظرة المجتمع لم تكن إيجابية تجاهها، إلا أن قيامي بحرق لوحات حصادي في ذلك الحين ولدّت لديّ حافز الاستمرار وامتلاك ثقافة الإبداع ،ومن هنا بدأت مرحلة بناء الشخصية والبحث عن رائحة الألوان وحركة الريشة لتصل إلى الحقيقة التي أبحثها عنها".

مالفا .. عالميته من وطنيته

يؤكد (حمدي) أن الفنان يكون عالميا ً من خلال وطنه فيعبر عن ارتباطه بالمكان الذي ولد فيه ويقدم صورة جميلة عن وطنه للعالم الخارجي، وهنا يدعو (حمدي) إلى تفعيل لغة الاتصال مع العالم وهذا يتطلب امتلاك ثلاثة أدوات هي "الفكرة – رأس المال - التنفيذ".

ولسورية مكانة كبيرة في قلب (مالفا)،وهذا يتجسد في معارضه المتكررة ورغبته في استنشاق هواء دمشق بين حين وآخر وزيارة بيوتها القديمة ليشحن ذاكرته باللون السوري.

وفي دليل على ارتباطه بالجذور،يحلم (مالفا) بمتحف للفن المعاصر في سورية،يكرر

الحلم في كل مرة يزور فيها سورية، ويأتي حلمه هذا "انطلاقاً من أن الحضارات عبر التاريخ تتجسد في المتاحف، فالزائر الغربي عندما يأتي إلى سورية يزور أولا ً المتاحف ليرى غنى حضارتنا وتاريخنا، لذلك علينا أن نحافظ على ما نمتلكه من الماضي خاصة أننا نعيش في عصر السرعة والتطور التكنولوجي فهناك خوف على عالم الفن وعلى حضارتنا بسبب وجود أشكال من الاستهداف والنيل من هذه الحضارة، وهذا يتطلب منا الدفاع عن حضارتنا وشرعية الإنسان وروحه وقيمه النبيلة ، وفي الوقت نفسه التعامل مع التكنولوجيا والتقنية السريعة دون أن يؤدي ذلك إلى إلغاء إنسانيتنا ".

وبما انه كشف جوهر الإنسانية ومعانيها في رحلة الغربة الطويلة، فيرى الطائر السوري المهاجر (مالفا) أن الإنسان هو جوهر الحياة، ويجب تطويره لان بنائه ينعكس على بناء الوطن عامة ً .

كلمات ودلالات قالها بريشته وبرؤيته للون وعمق الجذور، قبل أن يحلق عائدا ً إلى حيث الاغتراب ليجسد هناك مرة جديدة مشاهداته بين الأهل من خلال مادة فنية تزيد من ارتباطه بالوطن وتشرح للعالم ألوان النسيج السوري المتكاملة.