من عتمة صالة السفراء خرج وقد اختمرت الفكرة في رأسه، شاب بحث طويلاً عن ضآلته بين الفلسفة والأدب بعيداً عن الهندسة التي لم ترض طموحه يوماً، ورغم السنوات الثلاث التي قضاها على مدرج كليتها، ورفض والدته الشديد إلا أنه قرر الابتعاد.

على تلك الشاشة الضخمة علق حلمه ورغم رداءة العرض حرك فيه الأمل مجدداً، لقد كان عرضاً بعنوان "زمن الغجر"لإمير كوستريكا.

جود سعيد من مواليد 24/11/1980 هكذا بدأ: لم أستطع أن أرى نفسي مهندساً فانطلقت مبتعداً باحثاً في مكان آخر، انتظرت بعد ذلك وعداً بمنحة لإيطاليا وأخذت أتعلم الإيطالية إلا أنني لم أحصل عليها، لقد كانت المنح التي تعطيها سورية آنذاك محصورة بوزارة التعليم العالي، وإلى دول ليست موجودة على الخريطة السينمائية، فلو كان في سورية معهد للسينما لكان أفضل من تلك الدول، أما المنح التي تأتي من قبل السفارات كانت لا تشمل الفروع التي تعد ترفاً كالسينما ينظرون إلينا كفتية من بلدان متأخرة.

سافرت بعدها إلى فرنسا على أساس قبول هندسي سنة ثالثة وصلت هناك وبدأت البحث فالبحث من هنا ضرب من المستحيل.

التقيت في فرنسا بمدير معهد فنون الخشبة والصورة والسينما بجامعة لوي لوميير بليون، وشرحت له رغبتي والصعوبات التي واجهتها فطلب مني التحضير للمسابقة التي سيجريها المعهد وتصوير فيلم قصير.عدت إلى سورية وصورت فيلم باسم (باص) مدته (13) دقيقة كنت أعتقد أنه فيلم أما الآن فهو لا شيء.

رجعت بعدها إلى فرنسا ونجحت في المسابقة، دخلت سنة ثانية تحضيرية وأجريت بعد ذلك عدة اختبارات واجتزتها بنجاح لتظهر لي عقبة جديدة تمثلت في القسط الذي يبلغ حوالي عشرة آلاف يورو وهو مبلغ كبير جداً ولم أكن قادراً على تأمينه إلا أنني سعيت جاهداً فحصلت على ورقة (فقر حال) من سورية عندها تحملت بلدية ليون مع المعهد مصاريف الدراسة بناءاً على شروط التزمت بها.

يتابع جود: استفدت كثيراً هناك لأنني كنت أتحدث الفرنسية بطلاقة درست في معهد باسل الأسد وكثيراً ما دفعتني والدتي لأخذ دروس خصوصية لدى الراهبات.

بدأت المعهد أربع سنوات وتأخر فيلم تخرجي بسبب مشروع التخرج الذي كان بعنوان "وجهك أرض قصية" فعدت إلى سورية واتبعت دورة استاج في المؤسسة العامة للسينما لمدة ستة أشهر، وقمت بتعديل فيلم التخرج واختزلته وتخرجت عام 2006.

و من الأفلام التي أخرجتها في المعهد فيلم بعنوان "بضعة من أيام أخر" يعتقد الصحفيون أنه مشروع تخرجي إلا أنه ليس كذلك

فور عودتي إلى دمشق وضعت سيناريو فيلم "مونولوج" لدى اللجنة الفكرية في المؤسسة العامة للسينما، وبدأت بمعادلة الشهادة، وعانيت شتى صنوف الضغط النفسي.

وفي آذار 2007 بدأت التحضير لفيلم مونولوج من إنتاج المؤسسة العامة للسينما وميزانيته هي الأصغر في تاريخ المؤسسة حيث بلغت 500 ألف ليرة سورية.

وقد أخذ الجائزة الفضية في مهرجان السينما الخامس عشر رغم أنني غير راض عن مستوى الفيلم ولدي تحفظات عليه فهو أول تجربة في سورية يصور بتقنية الكاميرات العالية الدقة، بعدها سافرنا به إلى تركيا ونقلناه إلى شريط خام 35، ولذلك من الطبيعي أن يحمل مشاكل تقنية، كما أنه صور في ظرف صعب وبقي في رأسي سنتين وهي "جريمة"، إلا أن ذلك لا ينفي وجود أشياء في الفيلم راض عنها 100% لشخص يبني لغة صوت وصورة خاصة به، وأعتقد أنه سبب حصوله على الجائزة الفضية السوية التقنية العالية المستخدمة.

وكنت قد استعنت في الفيلم بممثلين غير محترفين وأنا سعيد بهذه التجربة.

يرى جود أن السينما هي إعادة تأليف الواقع أي أنها وهم الواقع والسينما التسجيلية أحد أشكال رصد الواقع وأنا بدوري كان لي فيلمين تسجيليين فقط.

يتابع جود: أعتبر الدراسة الأكاديمية مهمة للغاية أكثر من الإبداع فقد يكون حامل الشهادة ليس لديه إبداع لكن لديه الحرفة والثقافة السينمائية اللازمة

ويضيف: هنا الدراما التلفزيونية شوهت مفهوم التعبير من خلال الصورة، فالصوت والصورة تعد أساس السينما، إضافة إلى غياب النقد السينمائي في سورية فمن يكتب هم مجموعة من الصحفيين لديهم نيات طيبة إلا أن ثقافتهم السينمائية ضحلة وبسيطة.

وعن أول عبارة إطراء سمعها في المعهد قال: كانت أثناء المقابلة بعد النجاح في المسابقة من أستاذ بروفسور يكتب في السينما منذ الستينات، كان حلمي أن يضع لي علامة فوق( 14من20) لكن للأسف تخرجت ولم يتحقق الحلم، إلا أنني مدين له فهو غير طريقة تفكيري بالأشياء وهو أمر بمنتهى الصعوبة.

وعن أسوأ موقف تعرضت له كان أيضاً مع أستاذ أصبح صديقاً فيما بعد حيث منحني علامة(1 من عشرين) في مادة كتابة وثائقية وقال لي أنني لا أعرف كيف أكتب لكنه في العام التالي بدل رأيه إلى الأقصى.

وعما إذا كان المخرج شخص متعنت بأفكاره أجاب جود :أنا أحاول الدفاع عن رأيي إلى أبعد الحدود لكن عندما أخطئ أعتذر . وفي العمل أحاول أن أسمع كثيراً فالسينما بالنسبة لي فن ديمقراطي لأنها جهد جماعي وليست قرار مخرج إلا أن المشكلة كما أراها تكمن في وجود شخص وحيد بكل الفريق يرى الفيلم ككل بينما يرى كل واحد بدوره جزء من الفيلم وهذا الشخص مطلوب منه أن يولف الأجزاء كلها ويدير الفريق وبالتالي من الطبيعي أن يكون له الكلمة الأخيرة أي أن عليه تجميع الآراء وإعادة صياغتها وطرحها في جملة، ودائماً قبل البدء بأي عمل أسأل الأشخاص الذين يقرأون النص هل أحبوه فإذا أجابوا بنعم نعمل سوية.

اليوم أنا أستعد للبدء بفيلم طويل، بعد فيلم وداعاً الذي كان تجربة فيلم روائي بمثابة تحية للمخرج بريغمان .

ويختم بالقول لعل انتشار أفلامي وعرضها في العالم أمر يسرني إلا أن الأهم برأيي هو عرضه في سورية لأن ردة الفعل التي تأتي من أشخاص يتكلمون لغتك تكون أشد تأثيراً.

جود سعيد بعدسته يرى ويحلم وينفذ، والصورة التي نراها إبداع شاب سوري.