مثّل الفنان العالمي الراحل "مروان قصاب باشي" رقماً صعباً في التشكيل الأوروبي، واستطاع أن يكون واحداً من الأصوات الاستثنائية في العالم الحديث في مجال الفنون التشكيلية بأسلوبه التعبيري، وألوانه غير المنتسبة إلى بيئة محددة.

مدونة وطن "eSyria" التقت التشكيلي "أنور الرحبي" بتاريخ 25 تشرين الأول 2016، الذي تحدث عن سيرة "قصاب باشي" الشخصية، فقال: «هو من مواليد "دمشق" عام 1932، عاش وترعرع فيها ونهل من ثقافتها ومعالمها، درس في كلية الآداب في مدينة "دمشق" حتى عام 1963، وتابع دراسته الفنية في المعهد العالي للفنون الجميلة في برلين، قسم "التصوير" على يد الفنان الألماني "هانز ترير"، وبين الأعوام 1977-1979 عيّن أستاذاً في المعهد العالي للفنون الجميلة ببرلين، وأستاذاً ذا كرسي في قسم التصوير في المعهد الذي تخرّج فيه، واختير عضواً في المجمع الفني البرليني سنة 1993، ثم تفرّغ للرسم في "برلين"، وظل يقيم ويعمل فيها حتى رحيله».

اشتريت فرشاتين للألوان منذ البداية، ومنذ ذلك التاريخ لم أتوقف عن الرسم

ويتابع: «هو من الأصوات الاستثنائية في العالم الحديث في مجال الفنون التشكيلية، إضافة إلى حصوله على وسام الاستحقاق الألماني برتبة فارس من الرئيس الألماني 2005، الذي يطلق عليه "روح ألمانيا"، قدّم من خلال تجربته التصويرية الكبيرة والبعيدة عن تقاليد البورتريه أو الشكل الإنساني المعتاد صيغة جديدة تعبيرية في إيقاعها، ملأى بالوسامة اللونية، صياغاته تنمّ عن عشقه للّون المضاف، وتأثيره الواضح في كسر مساحة اللون الأنيقة وإخضاعها إلى مساحات متقطعة ومتضاربة في الترتيب لتشكيل قيمة لونية غير معتادة».

من لوحاته

وعن أهمّ ما احتوت أعماله والجوائز التي حصل عليها، يضيف: «كانت "دمشق" تعنيه كثيراً، أسواقها، وتاريخها الأدبي والعمراني والسياحي، هذه البيئة بمفرداتها الكثيرة، يحملها أينما ذهب، ويستخرج بين مدة وأخرى بحرص بالغ شيئاً من كنوزها ليفاجئ نفسه والآخرين بالاكتشاف، وقد حصل على العديد من شهادات التقدير، وكذلك الجوائز الفنية من "بينالي" البندقية، وكذلك جائزة "كارل هوفر" في "برلين"، وجائزة "مدينة الفنون" باريس، ومن صالة "دار مشتتات" ألمانيا، والجائزة الأولى بالنحت في "معرض الربيع" في "دمشق". أعماله مقتناة من وزارة الثقافة والمتحف الوطني في "سورية"، والمتحف الوطني في "برلين"، ومتحف "هانوفر"، ومتحف الأعمال الغرافيكية في "ميونخ"، ومعهد "بيتسبورغ"، و"المكتبة الوطنية" في "باريس"، ومتحف تاريخ الفنون "الهانزا"، ومتحف "الفن الحديث" في "بغداد"».

ويتابع "الرحبي" عن أجمل ما قيل في الراحل: «لقد كتب عنه الكثير، ومن أجمل ما قيل عنه تلك العبارات التي صاغها الروائي الراحل "عبد الرحمن منيف"، عندما قال: (ينتمي "مروان قصاب باشي" إلى نوع نادر من الفنانين الذين يؤمنون بأن الفن ليس مجرد جمال سابح في الفراغ، بل هو فعل أخلاقي يربط المتعة والفرح بالحقيقة، يرسم وجوهاً كما هي الوجوه، بل تجليات أقرب إلى الأفكار).

التشكيلي أنور الرحبي

وأكد الإعلام الألماني أن الفنان "مروان قصاب باشي" الأكثر حضوراً في المعارض الدولية والتجمعات التشكيلية في العالم، ويعدّ الوجوه التي يقوم برسمها كيانات ذات معنى، وسيرة، وحياة لا مجرد وجوه، كما أضاف الكثير من الباحثين في شأنه الفني أنه استفاد من عالم الدمى وتركيب الطبيعة الصامتة، التي عكست عوالم تجريبية وترميزية وسميت مرحلة الرؤوس، يمكن القول إن له موقفاً مشرفاً للفنان السوري إبّان هزيمة حزيران 1967، حيث رسم العديد من المواضيع والوجوه المهمومة والمتعبة في كتابه "من مروان إلى أطفال فلسطين"، الذي وثق فيه مجموعة من الأعمال الفنية التي أهداها إلى جامعة "ببيرزيت" ومركز "خليل السكاكيني" الثقافي في مدينة "رام الله"».

وختم حديثه قائلاً: «يبقى "مروان قصاب باشي" في قلوب محبيه، كان وما يزال صوتاً مبدعاً سورياً بجدارة، وأحد أهم الفنانين السوريين الذين كانوا رقماً صعباً في التشكيل الأوروبي، إضافة إلى أن الشمس الشرقية أطّلت في رسمه موشوراً جديداً من حيث البحث الفيزيائي العضوي للشكل، هو خارج عن السرب التقليدي للفن، التقيته في "دمشق" وسألته: لماذا أنت في أغلب أعمالك؟. قال: "أنا في لوحتي أوكسجين تلك المدارات الملونة في الشكل والمضمون"».

الدكتور عفيف البهنسي

وعنه قال التشكيلي والباحث الدكتور "عفيف البهنسي": «استطاع أن يقفز في مجال أسلوبه التعبيري إلى القمة في المحافل والمعارض الدولية، بدأ الرسم بتصوير الوجوه وانتهى بعالم التعبير عن المطلق الفني، واستطاع بريشته أن يكوّن أسلوباً فريداً من نوعه، لم يكن ملتزماً، إنما كان يعدّ العمل الفني هو إبداع بالدرجة الأولى، والإبداع يتطلب إيجاد صيغ جديدة وعالم جديد في نطاق التشكيل الفني الذي يختلف تماماً عن الواقع، كان هناك من يحب أسلوبه، وهناك من استطاع أن يؤثر فيه.

حدثني مرة أنه كان يريد أن يقدم برامج تلفزيونية تحدث من الضجة الكثير، فعل ذلك في "باريس" عندما قدّم أعمالاً فيها الكثير من التحدي، ولا شك أن الفن الحديث يقوم فعلاً على التحدي، أرى أنه كان فناناً عالمياً، واستطاع أن ينتقل بألوانه التي لم تنسب إلى بيئة محددة، لكنه منذ أن كان طالباً في كلية الفنون يعبّر عن عملية الرفض لكل شيء قائم، وأصبح ماضياً، هو يبحث عن الشيء المستقبلي، وأظنّ أنه استطاع أن يمتلك أسلوبه، وأن يعبر عنه بقوة، وأن يكون فناناً عالمياً اقتنت المتاحف العالمية أعماله بكل تقدير، هو يمثّل جيل الشباب، وكان يشعر دائماً بأنه في سنّ الشباب».

وأضاف التشكيلي "عاصم زكريا": «كان نشيطاً يعرض أعماله بأسلوب حديث وجرأة، يأخذ بالأساليب الفلسفية الحديثة جداً، ويتطرق إلى اللا واقع واللا معقول في أعماله».

بدوره التشكيلي "محمد الميداني" يضيف: «في رسومه صورة الأنثى التي تخرج من جسد الذكر، أو الهامات المزدوجة الهرمونات، ثم الوجوه المكتوبة والأنامل المنطوية، يخرج من البورتريه الذكوري أحياناً ساق أنثوية في حذاء يقتصر في أبلغ رسومه على الرأس الذكوري المشوّه الذي يعكس الحالة الخاصة عنده، يتمفصل رمزياً مع قدم وحذاء خليع أنثوي.

إذا كنا نتحمس لغير المألوف في عوالمه، فإن المألوف منها لا يقل إغراء وفتنة في الأداء، هذا الأداء المتصل بدوره بالشخصية الميثولوجية اليونانية "نرسيس" هو الذي غرق أسطورياً في فتنة وجهه منعكساً في صفحة مرآة الماء، تعبر فرشاة "مروان" المحتدمة من مرآة ذاتية وجهة تكسر كينونته اللونية، فتتراكم المقامات اللونية حتى تفترش الفصول الأربعة».

ومن الأقوال المشهورة للراحل "مروان قصاب باشي": «اشتريت فرشاتين للألوان منذ البداية، ومنذ ذلك التاريخ لم أتوقف عن الرسم».

الجدير بالذكر، أنّ الفنان "مروان قصاب باشي" قد فارق الحياة في "برلين" يوم الأحد في 24 تشرين الأول 2016.