«تقوم بعثتي الدراسية إلى ألمانيا على أبحاث علمية هامة في صعيد الخزف، وهي أنني سوف أعمد إلى أخذ عينات من مناجم قديمة للطين لدينا من أجل تحليلها والوقوف على نوعيتها وجودتها ومدى منافستها للطينة التي نستوردها من الخارج وللأسف بعد الماضي العريق الذي نمتاز به، والبحث الثاني يتعلق بالتقنيات الخاصة بالشي الحراري على درجات عالية وصناعة القرميد الخاص بالأفران من أجل الاكتفاء الذاتي المحلي، والبحث الثالث يتعلق بي شخصياً وهو تضخيم عمل فني خزفي ليصبح منشأة عمرانية، والبحث الأخير يتعلق بالسيكولوجية الخاصة بالطفل من خلال معرفة مدى الارتباط الوثيق بينه وبين مادة الصلصال وتأثيرها على سلوكه وقدرتها على التجاوب معه»...

هذا ما قاله الخزاف "علاء الدين نبهان" في بداية حديثه لموقع eDamascosحول المنحة الدراسية التي قدمت إليه كأول خزاف مدرس باحث في علم الخزف، وحول قصة نجاحه التي حققها في هذا المنحي الإبداعي، وذلك أثناء حوارنا له عبر المراسلة بتاريخ 14/10/2009 في أكاديمية "كوب لينز ـ ألمانيا".

ما يميز تجربة الخزاف "علاء الدين نبهان" سعيه الدائم للأفق البعيد في منحى اكتشاف جماليات الخزف، وخاصة مادة الصلصال وما تتحلى به من سمات روحانية تبعث في النفس الهدوء وتعمل على تحرير المكنون النقي في عمق البصيرة حتى يتشكل الإبداع

وأضاف: «خلال فترة احترافي للخزف كنت محظوظاً ورفاقي بقدوم أكثر من ثلاث خبراء أجانب منهم الخزاف السويسري "أدريان كنوزل" والبروفسور والخزاف الألماني "يوهان برنت" الذي يعد ثاني شخصية علمية في جامعة "كوب لينز" في ألمانيا، وأثناء قدومه الأخير إلى سورية بسبب ورشة العمل التي أقيمت في المعهد التقاني للفنون التطبيقية في "دمشق"، وبعد إدراكه لما أملك من حس فني وقدرة تقنية عالية في روح المادة قرر مع إدارة المعهد خلق طريق لتبادل الخبرات بين جامعته ومعهدنا عن طريق الهيئة الألمانية للتبادل العلمي DAAD وقد سعدت كثيراً عندما وقع الاختيار علي كأول مدرس خزاف يحصل على هذه المنحة من أجل إتمام أبحاثه العلمية خارجاً واستكمال ما ينقصه من المراجع التقنية الاختصاصية لهذه المادة».

قطرة من دمع المطر

قصة نجاح

لمسات حسية مقتبسة من الحلم

وحول قصة نجاحه في فن الخزف، قال: «تنطوي قصة نجاحي تحت ثلاثة أشياء أولها قصة رسوبي في صف التاسع التي كانت دافعاً لنجاحي فيما بعد عندما جلست أفكر بما حدث معي كوني أنتمي إلى عائلة أفرادها على درجة عالية من الثقافة، حينها أحسست أنه من واجبي أن أكون مثلهم تقديراً لهم وأن أحصل على كينونة معرفية أثبت بها وجودي في مجتمعي، والشيء الثاني الفضل الذي قدمته إلي مدرستي "طلّة العلي" في مادة الفنون "طلّة العلي" التي أحست بموهبتي الفنية وأخذت تطلب مني دوناً عن غيري من زملائي الطلاب رسم الكثير من المشاهد البصرية المنتمية إلى طبيعة "حماة" من بينها النواعير والمنطقة الأثرية المحيطة بها، فكانت أول لوحة زيتية لي تحت إشرافها وطلبت مني اقتنائها نظراً لدقتي في إنجازها، بعدها قدمتني إلى مسابقة في ريادة الفنون وحصلت على المركز الثاني».

وأضاف: «من هنا كانت بدايتي مع الفن، بعد هذه المرحلة حصلت على شهادة الدراسة الثانوية فرع أدبي وكانت تلك أحاسيس الفنان لا تزال تراودني فقررت الانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في "دمشق" ولكن شاء القدر أن أتأخر على مفاضلة الكلية وحينها تعرفت على معهد الفنون التطبيقية في "دمشق" وعندما أتيت للتسجيل فيه أحسست بمكانته الرائعة كونه مركز تعليمي وسط قلعة أثرية عريقة تحتوي في داخلها مفردات بصرية رائعة الجمال ولم أدرك في ذلك الوقت ما هو معنى المفردة البصرية وقيمتها بالنسبة إلى حياة الفنان. أما اليوم الموضوع مختلف، ولكن ما أستطيع قوله: أنني كنت سعيداً عندما وطأت أقدامي داخل القلعة وانتسبت إلى معهد الفنون التطبيقية».

تجليات من الحس الكوني

وقال حول بدايته في معهد الفنون التطبيقية: «أميز ما أذكره في هذا الجانب أن الفنان التشكيلي السوري "زكي سلام" الذي قام بانتقاء الأصلح من الطلاب للانتساب للمعهد سألني عمّا تعنيه نقطة الأفق بالنسبة إلي؟ أجبته: أن لدي جوابين لهذا السؤال... الأول كان: أنها أبعد نقطة يستطيع أن يصل إليها البصر والثاني أنها نقطة التقاء السماء مع الأرض، وعندما رأى على لوحتي رسماً لوجه الفيلسوف اليوناني "سقراط" الحكيم أدرك حق المعرفة أن داخلي يوجد فنان فأعطاني أعلى علامة في ذلك الوقت وتم قبولي في المعهد، وعندما سألت عن الاختصاص الذي أريده... كنت قد أتيت من حياة شاقة يتضمنها النحت على الحجر وأعمال مهنية أخرى فأردت أن أرتاح من أجوائها فاخترت مادة الصلصال لما تذكرني به من ذكريات الطفولة والسعادة التي عشتها في رحابها، وكان ذلك أول طرقي مع الخزف».

وفيما يتعلق بالأماكن التي حققت له الإشباع الجمالي والبصري، قال: «الجدير بالذكر أنني أتيت من الريف من أب يمتهن الزراعة وجدي كذلك، وعشقي أن أغمس جسدي بين ترع الماء عند سقاية الأرض وسط الطين اللطيف الطري في قريتي "قمحانة" الواقعة إلى الشمال الشرقي من محافظة "حماة" التي تتسم بتنوع تضاريسها الجميلة مثل جبل "زين العابدين" الذي يبلغ ارتفاعه /550/م ونهر "العاصي" بطواحينه الحجرية وشلالاته التي تحدد مجراه وأقواسه ذات الميول الانسيابي التي تستخدم لنقل المياه إلى أماكن بعيدة، وكان لهذا التنوع دوره في إشباع ثقافتي البصرية وتطلعي إلى الغد وخاصة عندما أصعد إلى قمة جبل "زين العابدين" الذي يطلّ على طبيعة لها تشكيل فني رائع، فما بين جبل ونهر ترعرعت ونشأت».

لابدّ للفنان المميز من مواقف جميلة لها بصمتها وحضورها في الذاكرة، قال حول هذا الجانب: «مرّت في تاريخي مواقف تركت بصمتها وحضورها لدي، مثل سؤالي للفنان التشكيلي "وائل دهان" حول الاختصاص الذي اخترته للدراسة وأهميته في الحياة العملية، فأجابني بكلمات موجزة: إنك تشارك الطين والماء والنار بمزيج واحد، وهي عناصر مقدسة في جميع الديانات... متوفرة ولا ثمن لها، وبعد إبداعها تصبح إرثاً حضارياً وثروة مالية، فماذا تخسر حين تعمل بها؟ أجبت أخسر تعبي، فقال: "هذا ما أتيت لدراسته، والسؤال الثاني: ما هو الفن بنظرك؟ فأجاب: "ابتعد عن كل ما تراه أمام عينيك وأخرج ما لديك في الداخل حينها كل ما تبدعه هو فن"، ولكن أسفي على هذه المادة التي تؤول إلى الاندثار بسبب جهل الناس بخامتها وقيمتها مع العلم أن سورية هي من أول الدول التي عملت بمادة الفخار ويوجد في المتاحف آلاف من القطع الفينة التي تشهد على ذلك ومن حقب تاريخية مختلفة، فأين أنتم من ذلك؟».

زهرة الاكتشاف

وبعد السؤال عن شخصية خزافنا، قال الفنان التشكيلي "وائل دهان": «ما يميز تجربة الخزاف "علاء الدين نبهان" سعيه الدائم للأفق البعيد في منحى اكتشاف جماليات الخزف، وخاصة مادة الصلصال وما تتحلى به من سمات روحانية تبعث في النفس الهدوء وتعمل على تحرير المكنون النقي في عمق البصيرة حتى يتشكل الإبداع».

وأضاف: «عند رؤيتنا لأعمال "علاء" الخزفية وتحليلنا لبعدها التكويني… ندرك منها شغفه الكبير بمادة الصلصال وخواصها ومن ثم تشكيلها إلى تكوينات نموذجية جميلة تموج على سطحها ألوان الخزف ومنها التي تعكس لون القدم، مثل: الأزرق الذي يذكر بأعمال الخزافين الأجداد… والنحاسي والأحمر الذي يذكران بوهج الشمس وبريق المعدن الثمين، "علاء" خزاف متمكن يرى حقيقة الأشياء جيداً، ويقطف من كل بستان معرفي يجول فيه زهرة اكتشاف جديدة في علم الخزف، وما سفره المفاجئ إلى جامعة "كوب لينز ـ ألمانيا" إلا لاستكمال أبحاثه واكتشافاته التي ذكرت».

من الذاكرة

تخرج " علاء الدين نبهان" في معهد "الفنون التطبيقية ـ دمشق" عام 2004، نال خلال إنجازاته الإبداعية عدة جوائز… منها: المرتبة الأولى للخزف في مسابقة مهرجان "التراث الشعبي" عام 2004، وهو مؤلف قصة الطفل الطيني، ومخرج ومعد لستة كتب اختصاصية في فنون الأطفال، أعماله مقتناة في "سورية، وإيطالية وهولندا وفرنسا، وله مشاركات في معارض مشتركة أقيمت في "دمشق".