ثمانية عشر مشهداً قدمها خمسون راقصاً من فرقة "أورنينا"، حكت من خلالها تاريخ "كنعان" منذ نشوء تلك الحضارة العريقة وبزوغ فجر الحياة على تلك الأرض، وانتهاءً بحملات التهويد التي تمارسها سلطات الاحتلال على مدينة القدس.

واستطاعت الفرقة من خلال مشاهد العرض الراقصة أن تحقق مشهدية عالية، لاسيما في ظل الأزياء البصرية المتحركة والتي ساهمت كل من أجساد الراقصين والديكورات ودرامية الإضاءة، والتي تمكنت ضمن تقطيعات على الخط الدرامي أن ترصد التمازج الحضاري بين أكثر من ثقافة مرت على أرض كنعان، لتنتقل بعدها عبر تصاعد موسيقي لأصوات الموج لإعلان ظهور الشخصية المحورية في العرض "كنعان" الذي يرمز لأصل الشعب الفلسطيني عبر التاريخ، ثم ترسم "أورنينا" عبر إلياذتها فظاعة جرائم "أوشع بن نون" في مدينة "أريحا"، وأفول شمس الحضارة، لتتحول الدراما إلى تراجيديا واقعية، تعلن سقوط الحلم، لكنها لا تبقى على تلك الذروة من الألم، بل إنها تجسد انبعاث الأمل والتفاؤل بفجر الحرية القادم، وهنا يحصل انقطاع زمني في التسلسل التاريخي للعرض لنشاهد لوحة من حقبة الحاكم الروماني "هيرودوس" وتحالف الفرِّيسيين مع الغزاة الجدد، وبعدها ننتقل عبر مجموعة التراتيل إلى التبشير بولادة السيد المسيح، وعبر تصعيد درامي مقبول، تتجسد الدسيسة التي حاكتها "سالومي" صاحبة الأنوثة العالية، والتي أغوت "هيرودوس" وجعلته يحقق طلبها برأس "يوحنا المعمدان"، وجاء ذلك عبر حوار زاوج الراقصين مع الموسيقا.

كان هناك الكثير من اللوحات المجانية، والتي لو اقتطعت من العرض لما تأثر، كما أن هناك إساءة لبعض الرموز الدينية من خلال الرقصات

كما يشهد هذا العرض انتقالاً إلى مرحلة الفتح الإسلامي لفلسطين، عبر لوحة تتمازج فيها الرايات مع صهيل الخيول، وصوت يقرأ العهدة العمرية على سكان "إيليا"، ثم تتداخل الموسيقا مع ألحان كنسية دلالة على التعايش السلمي بين الأديان على أرض فلسطين، ويصور الاستعراض بعد ذلك الازدهار الحضاري في أرض فلسطين معلناً نهاية الحكم الصليبي على يد "صلاح الدين الأيوبي" وتحرير القدس، وتنتقل الأحداث بعدها نقلة كبيرة إلى فترة الانتداب الإنكليزي لفلسطين، ودخول الجنرال "اللينبي" ومعه حاخامات اليهود، ليبلغ العرض ذروته الدرامية من خلال مشهد النكبة وتهجير الشعب الفلسطيني، واقتلاعه من أرضه، ولاسيما مع استخدام الأغنية التراثية "يما مويل الهوا يما مويليا.. طعن الخناجر ولا حكم النذل بيا"، وتأتي بعدها لوحة الثورة بأداء قوي يمثل عنفوان الشباب الفلسطيني.

الإلياذة الكنعانية

وتضمنت إحدى اللوحات قصيدة "أيها المارون بين الكلمات العابرة" للشاعر الفلسطيني الراحل "محمود درويش" بصوته، وأخرى احتوت مقاطع من قصيدة "خديجة لا تفتحي الباب" مما زاد من تعبيرية اللوحات الراقصة وخدم فكرة العرض، ليعود العرض إلى التركيز عبر رقصة ثنائية على "حلم الزفاف" لتعبر عن الحب في ظل الحرب، وجاءت أصوات أزيز الرصاص واستشهاد الشاب الفلسطيني لترسم بعض ملامح الحياة الفلسطينية، ومنها لوحة تتكرر في ذاكرة الفلسطينيين وهي "عرس الشهيد"، كتعبير عن الألم الفلسطيني المعجون بالأمل الدائم بتحرير الأرض والإنسان.

كما تناولت "الإلياذة الكنعانية" في لوحة "جدار البراق" ما تعاني منه القدس من تهويد وسرقات تاريخية، وتغيير لمعالم المدينة بطريقة رمزية، استفادت من تقنيات الديكور وأداء الراقصين، لينتهي العرض بمجموعة من اللوحات التراثية الفلسطينية التي قدمت على خلفية من أغاني الفلكلور بصوت المغني الشاب "شادي علي".

من العرض

أهدت الفرقة عرضها الأخير للراحل "محمود درويش" الذي جسد ضمير الشعب الفلسطيني الحي والباقي كرمز راسخ لمقاومة الاحتلال، وكل محاولاته لتهويد القدس.

وقال "ناصر إبراهيم" مدير الفرقة مخرج العرض: «إن الإلياذة الكنعانية تستلهم رقصاتها من الفنون الشعبية الفلكلورية الفلسطينية، بأسلوب فني متطور وحديث، وبإيقاع سريع يبقي المشاهد ضمن الأحداث المعروضة». لافتاً إلى أنه يسعى للقيام بجولة عربية وعالمية لتقديم هذا العرض في رسالة فنية راقية للعالم، تبين أحقية الشعب الفلسطيني بأرضه وانتمائه إليها عبر عصور من التاريخ القديم وحتى الآن.

التشكيل البصري في العرض

من جهته أوضح "ياسر الدوماني" أحد الحضور أن العرض حاول أن يقتطع مشاهد من تاريخ فلسطين ويعبر عنها بالحركة بطريقة استعراضية، وقال: «بالنسبة لي كمتابع للعروض المسرحية العربية والعالمية، لم أستطع أن أتقبل فكرة الحديث عن آلام الشعب الفلسطيني عبر الرقص الاستعراضي، مع أنه كان بإمكان الفرقة ومصمم رقصاتها اللجوء إلى أنماط أخرى من الرقص التعبيري ذي المستوى الأعلى فنياً من أجل الوصول إلى نتائج أفضل، لاسيما في المشاهد مأساوية والمطبوعة بذاكرة العرب ووجدانهم».

على النقيض وجدت "سهى الأحمد" من الحضور أن العرض استوفى جميع شروط نجاحه، من خلال التنوع الحركي والبصري الذي حققه، فضلاً عن الخيارات الفنية الدقيقة التي استطاع مخرج العرض غربلتها بحيث استبقى أهم المراحل التاريخية التي مرت بها فلسطين منذ فجر التاريخ.

من جانبها بينت "ناديا الكوراني" من الحضور أيضاً أن البطل الأول للعرض كان المغني الشاب "شادي العلي" الذي أثبت أنه قادر على التمثيل إلى جانب أدائه الغنائي الراقي، وتمنت "الكوراني" لو أن الغناء كان حياً وليس تسجيلاً، لأنه كان سيحقق تواصلاً أهم مع جمهور دار الأوبرا السورية.

بدوره رأى "كامل وهبة" خمسة وثلاثون عاماً أن الاشتغال على الحركة لم يكن من أولويات العرض، بل إن الأزياء والديكورات كانت هي الأساس، بدليل قولها: «كان هناك الكثير من اللوحات المجانية، والتي لو اقتطعت من العرض لما تأثر، كما أن هناك إساءة لبعض الرموز الدينية من خلال الرقصات».

أما ما يتعلق بالجانب الموسيقي؛ قال "مصطفى الدقاق" طالب المعهد العالي: «إن الموسيقا المكتوبة للعرض كانت دون المستوى، حيث إنها لم تحقق هوية موسيقية مستقلة لهذا العمل الملحمي، فالبداية كانت مع موسيقية شبه إفريقية، ثم موسيقا تنتمي إلى الشرق تشبه الموسيقا اليابانية إلى حد ما، إضافة إلى الموسيقا الفلكلورية الفلسطينية، وهذا التشتيت لم يأت في صالح العمل ككل».

يذكر أن العرض من تأليف "محمود عبد الكريم"، موسيقا: "وليد الهشيم"، ديكور وإكسسوار: "محمد كامل"، إضاءة الفنان: "ماهر هربش"، أزياء: "محمد رحال". يستمر العرض حتى الثامن والعشرين من شهر كانون ثاني في دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق، كما سيقدم في الدوحة عاصمة الثقافة العربية لعام 2010 في الحادي والثلاثين من شهر كانون الثاني الجاري.