نوقشت في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة حلب رسالة الماجستير التي أعدتها الباحثة بشرى قطاع وعنوانها: "مظاهر الخصب في القصيدة الجاهلية".

وكانت بإشراف الأستاذ الدكتور عبد الرزاق الخشروم من جامعة حلب وعضوية كل من الأستاذ الدكتور فاروق اسليم من جامعة حلب والدكتور عدنان الأحمد من جامعة تشرين, وقد نالت الباحثة درجة الماجستير بعد مناقشتها من قبل لجنة الحكم علامة قدرها 85% وبتقدير امتياز.

وتعد الدراسات التي تصدّت لهذا الموضوع في الشعر العربي قليلة أو نادرة، على الرغم من وجود إشارات كثيرة للموضوع في كتب الدارسين قدماء ومحدثين، ولكنّها لم تجتمع وتلتئم في موضوع مستقل خاص.

ومن هذه الدراسات ما قدّمه د. عز الدين إسماعيل من تفسير لظاهرة النسيب في مقدمة القصيدة الجاهلية، وقد كان في ذلك متكئاً على مقال المستشرق الألماني فالتر براونه مضيفاً إليه بعض أفكار فرويد في الصراع بين قوى الخصب وقوى الموت (إيروس وثناتوس).

وتطرّق د. كمال أبوديب إلى بعض الأفكار المتعلّقة بالأبعاد الأسطورية ومظاهر الخصب في طوايا كتابه (الرؤى المقنّعة- نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي).

وسارت دراسة د.علي البطل عن (الصورة الفنية في الشعر العربي حتى آخر القرن الثاني الهجري) في المنحى ذاته في دراسته صلة الشعر القديم بالأساطير والمعتقدات، ولكنّه انطلق في بحثه من الأصول الأسطورية للصور الشعرية مما جعله يفسّر بعض النصوص وفقاً لوجهة نظره في انعكاس الشعر عن الأساطير.

والأمر نفسه حصل مع د.مصطفى عبد الشافي الشورى الذي حاول تقديم تفسير أسطوري للشعر الجاهلي في كتابه (الشعر الجاهلي : تفسير أسطوري).

ولا ننكر أن المدخل الأسطوري استطاع أن يفسّر الكثير من ظواهر القصيدة الجاهلية، وخاصة صورة المرأة وارتباطها بموضوع الخصب، فقد عاد الدارسون إلى المرحلة الطوطمية وارتباط المرأة فيها بالإخصاب الذي عدّه الإنسان سرّ الحياة، كما قدّم هذا المدخل ربطاً بين الأغراض كالهجاء والرثاء وبين الأصول السحرية أو الطقوسية القديمة، فالقصيدة عند الشاعر الجاهلي، كما يرى د.الشورى، شبيهة بابتهالات العابد وتمائم الساحر.

إنّ دراسـة موضوع الخصب بصورة مستقلـة، دفع بشرى قطاع للبحث عن مظاهره في الشعر الجاهلي، وتجلّيات الصراع الأبدي الدائر بين قوى الخصب وقوى الجدب، أو قوى الحياة وقوى الموت.

وهنا تبدّى لها أكثر من سؤال: ما دور مخيلة الشاعر الجاهلي؟ وهل كانت صور الخصب تعبّر عن تصوّر الجاهلي للخصوبة الكونية وتعكس عوالمه الداخلية؟ وهل للقوى الاجتماعية والبيئية دور في إنشاء النص الإبداعي الجاهلي؟ وما تعليل اجتماع صور الخصب مع نقائضها المماثلة لها...؟

وقد استفادت الباحثة من مناهج النقد المختلفة، فأعادت قراءة الشعر الجاهلي بحثاً عن مظاهر الخصب وأشكالها.

وكان على الباحثة أن تبحث عن باب تلج منه لتمسك بجوهر هذه الفكرة، فكرة الخصب في القصيدة الجاهلية، وما كان الأمر باليسير لأن المناهج التي يصطنعها الباحثون في دراساتهم كثيرةٌ كثرة الفلسفات والتجارب البحثية التي يصعب حصرها.

ولكنها اهتدت إلى منهج يقوم على رفض النظرة التقسيمية والتجزيئية في دراسة التجربة الشعرية والنظر إليها بوصفها كلاًّ متصلاً، ووحدة لا تقبل التجزيء, ذلك أنّ الموضوع يختار منهجه ولا يُفرَض المنهج فرضاً على الموضوع، وقد قامت الباحثة بتحليل النصوص ودراستها خلال البحث, فالحديث عن النبت والشجر، عن الزرع والضرع، عن المطر والسحاب والبرق والرعد، عن الأنواء والرياح وكواكب السماء، عن رحيل القوم بعد جفاف المكان، عن الإنسان والحيوان اللذين تقوم حياتهما على خصب الطبيعة.

كلّ ذلك يجتمع في مخيلة الشاعر بوصفه تجربة واحدة، كما هو في الطبيعة بوصفه طقساً أو سيمفونية لها بدايتها ولها نهايتها في تكرار أبدي.

وإن كان هذا المنهج يهدف إلى النظر للجزء في ضوء الكل؛ فإنّ مقتضيات الدراسة تتطلّب أحياناً أن نستفيد من أكثر من منهج كالمنهج الأسطوري الذي يعين في تقديم تفسير لوجود بعض الصور المتكررة وربط الجاهليين بين بعض الموضوعات، كربطهم بين المرأة والدرّة أو المرأة والغزال، و بين الثور والقمر، وغير ذلك...

ويمكن الإفادة أيضاً من المنهج البنيوي الذي يعين في تقديم إيضاح لبنية القصيدة ومفاصلها ومكوّناتها اللغوية والتركيبية..

ولا يمكن تجاهل المنهج النفسي الذي يوضح لنا عالم الشاعر الداخلي الذي يفيض بشعره ومكنونات نفسه.. ولم تغفل أيّة وسيلة أخرى يمكن أن تكون عوناً ومرشداً في البحث.

وقد عمدت الباحثة إلى تصوّر هيكلية البحث على النحو الآتي :

مقدمة نظريّة تشكّل مدخلاً للبحث ثم ثلاثة فصول تناولت في الفصل الأول الإنسان، ويتضمّن المرأة وارتباطها بعالم الطلل ورحلة الظعائن.

ويأتي الشيب والشباب ليشكّل جانباً من جوانب الفصل الأول، فنجد صورة البطل الفارس الكامل الهيئة والسلاح والذي يخوض حروباً ضارية ويخرج منها منتصراً معلناً قهر الموت على يدي قوى الحياة والاستمرار، فالحرب التي يخوضها هذا الفارس موت ودمار في حين أنّ السلام هو المقابل الآخر لهذه الصورة.

وتخصص الفصل الثاني للحيوان، فالناقة في رحلتها الطويلة الشاقّة في العديد من صورها، والتي يصفها الشاعر بتفصيلاتها الجسدية الدقيقة وألوانها وحركتها وتشبيهها بالثور الوحشي أو البقرة التي تعنى بصغيرها وتقيم لنفسها كناساً ترعى فيه ابنها، وربما أضاعت قطيع البقر وانفردت بعيدةً عنه وربما أضاع الثور قطيعه لفترة يخوض فيها معركة مع الصائد وكلابه. وتظهر الفرس بأبهى صور البطولة والعنفوان بجسدٍ قوي وبطنٍ ضامر وشعرٍ قصير، وغير ذلك من تفصيلات... كما نجد حُمُر الوحش، وبقر الوحش، والنعام...

وما دامت حياة الإنسان والحيوان متعلّقة بعالم النبات، والذي– بدوره- متعلّق بماء السماء، لذلك جاء الحديث عن عالم الأنواء والسحاب والمطر وعيون الماء والعشب والشجر، واضعة نصب عيني تلك الروابط والصلات التي تجمع كل عنصر من هذه العناصر بالآخر.

ومن ثم جعل الفصل الثالث للبحث عن المناخ والأنواء ودورها في عالم الخصب، فيأتي الماء (كالمطر والسحاب والينابيع) معبّراً عن هذا، والبحث كذلك في الكواكب كالشمس والقمر والنجوم .. وارتباط الشمس بالأنثى وارتباط الثور الوحشي بالقمر من خلال قرونه التي تشبه الهلال ولونه الأبيض ... ودور الماء والرياح والنار كعناصر مناخية.

وختم البحث بخاتمة أجملت الباحثة فيها النتائج والملاحظات التي توصّلت إليها، وإن كان لديها جديد أشارت إليه، فإنّه يكمن في طبيعة المنهج الذي مكّنها من رؤية الواحد في الكل، والكل في الواحد بحيث تترابط أجزاء العمل الفني في وحدة جوهرية، وإن بدت متفرّقة، كما تترابط أجزاء الطّبيعة وعناصرها في وحدةٍ كليّة، وهذا ما تبدّى واضحاً في قرن النبات بالأصل الذي صدر عنه أو السبب والعلّة: أي (المطر)، والمطر بالبرق والرعد والغيم والنوء، وهكذا تتبّعت رحلة المطر من النوء إلى الشّجر رابطة ذلك بوظيفة الشامان الذي عليه أن يتعهّد عملية التخصيب من بدايتها إلى منتهاها.

وكما تبدّى أيضاً في الحديث عن المرأة– الرحم الكونيّة، المياه الأولى، خزّان الوجود.

وهكذا توسّع إطار رمزية المياه، مصدر الخصب ومبعث كلّ خلق، إلاّ أنني أضفت إلى رمزية المرأة المتعلّقة بالحياة، رمزية أخرى متعلّقة بالموت، فهي تقرن عادةً من خلال التشبيه بالقوس والنبل والسّيوف والرماح.. وكلّها رموز موت، وكذلك تحدّثت عن تشبيه المرأة بالدّرة لدى تحليل قصيدة الأعشى وقصيدة المسيّب بن علس، والدّرة رمزٌ لرحم الوجود ومنها خلق الله اللوح والقلم على نحو ما ذكر الصوفية.

كما تحدّثت الباحثة عن الخصوبة الرّوحية عند الرجل، هذه الخصوبة التي تفيض على العالم بعمق الرّوح وخصوبتها وتعلّقها بالقيم، واستدماج الفرس في الفارس وإطلاق كلمة (عراب) على الفرس الأصيل لوجود مجانسة روحية بين الفرس والفارس العربي فضلاً عن المجانسة اللغوية.

ووجدت أنّ الحديث عن أمر من أمور هذا الشّعر أو عنصر من عناصره إنّما هو موصول بكل تأكيد بالأمور والعناصر الأخرى، وقد كان العمل بذلك رحلةً بين الأشياء، أشياء هذا العالم التي تشكّل لوحته الكبرى.

إنّها أشياء تبدو متجاورة، ولكنّها متّحدة في أعماق الشّاعر كما هي مترابطة برباط سرّي في عالم الطّبيعة.

وهنا نصل إلى مربط الفرس، وهو المحور الذي تدور عليه الحياة، والذي فهمه الشّاعر، وأعني بذلك جدلية الخصب والجدب أو الموت والحياة، وكون الشّاعر موكولاً بالانتصار لقوى الحياة والنّماء، وبذلك استطاع الشّاعر الجاهلي – إن نحن أحسنّا قراءته- أن يقدّم لنا من خلال قصيدته تجلّيات الرّوح متبدّية في صور شعرية؛ تارةً تدعى الطّلل، وأخرى تدعى بالنّاقة، أو الثّور، أو المطر والشّجر، أو غير ذلك، وقد تبدو في صورة المرأة، أو صورته عن نفسه (رجولته).

وللحقيقة لم يكن الطريق إلى إنجاز هذا البحث سهلاً وميسوراً، لقد تطلّب الكثير من الاطّلاع والجهد والتأمّل والأناة والرويّة والتثبّت، والبحث عن المصادر والمراجع والنظر في المادة العلمية والتصدي للنصوص بالدراسة والتحليل على نحوٍ مغاير لما قدّمته الدراسات السابقة في كثير من الأحيان.

وفي الختام توجهت الباحثة بالشكر إلى أعضاء اللجنة جميعاً على سعة صبرهم وتفضّلهم بقراءة بحثها وإبداء الملاحظات عليه، وتوجهت خاصة بالشكر إلى أستاذها الدكتور عبد الرزاق الخشروم على تفضّله بقبول الإشراف على البحث، فكان خير معين لها في رحلتها العلمية هذه.