أن تؤمن بقضيّةٍ، معناه أن تبذل كل جهد متاح، وتسخّر كل ما لديك لخدمتها، فكيف إن كانت قضية القضايا "فلسطين"؟ هنا يختلف الأمر قليلاً؛ فهي قضية قد تكلّف مناصرها -بالقول والفعل- مستقبله، وربما حياته، فأي إيمانٍ يلزم من يصمّم على مناصرتها وهو يعلم العواقب؟

إنه ابن "حلب"، السوري الذي خلع ثوب الطوائف، ولبس ثوب الإيمان، خلع ثوب التعصب، ولبس ثوب العروبة، ولقبّه الكثيرون بـ"أيقونة القدس".. إنه المطران "هيلاريون كبوجي".

كان خصماً للظلم والنهب والاحتلال من دون تمييز عنصري، وكان مقاوماً بالممارسة وليس فقط بالموقف، بل ربط القناعة بالممارسة، وكان شجاعاً في ذلك ومنطقياً مع أفكاره وقناعاته، على الرغم من مخاطر ذلك عليه شخصياً وعلى مرتبته الكنسية

«مقاوم وطني، هو بحقّ سوريٌّ وفيّ، وعربيٌّ غيور، رأيته وحادثته وراسلته، فكان كما ذكرت ووصفت، إن تحدث عن "سورية"، فحديث عشقٍ وانتماء واعٍ، وإن كلّمك عن "فلسطين"، فأنت أمام فدائيّ نبيل، ولأنه كذلك؛ صودرت حريته أربعة أعوام في سجون مغتصبي "فلسطين"، الصهاينة المجرمين»؛ هذا ما قاله عن الراحل المطران "كبوجي"، ابن مدينته مفتي محافظة "حلب" الدكتور "محمود عكام"، الذي جمعته بالراحل معرفة شخصية.

المطران كبوجي

وأضاف المفتي "عكام": «المطران "كبوجي" أقام في "إيطاليا" جسماً، لكنّ قلبه كان متجذراً في تربة "سورية" الطاهرة، وكانت "سورية" الغالية ساكنة ذراته.

له مني كل التقدير والإكبار، بل من كل شريف في العالم عامة، وفي "سورية" الحبيبة خاصة، مدينته "حلب" حزينة على فراقه».

روبير بشعلاني

أما الكاتب والإعلامي اللبناني "روبير بشعلاني"، فوصف الراحل الكبير بأنه كان عربياً لم يلتفت إلى أصوله وعنصريته أو قرابته، وقال: «كان خصماً للظلم والنهب والاحتلال من دون تمييز عنصري، وكان مقاوماً بالممارسة وليس فقط بالموقف، بل ربط القناعة بالممارسة، وكان شجاعاً في ذلك ومنطقياً مع أفكاره وقناعاته، على الرغم من مخاطر ذلك عليه شخصياً وعلى مرتبته الكنسية».

واستفاض ابن البلد الذي عشقه الراحل الكبير، الكاتب الفلسطيني "سعادة النابلسي" في الحديث عنه، فقال: «إن جانبتُ الحزن كشعور إنساني على رحيل المطران "كبوجي"، الذي له ما يكبحه من عوامل تعود إلى القدر أو تقدم سنّ الراحل الكبير، فإنني سألتفت بلا شك إلى ما كان يمثله الرجل من رمزية لمرحلة مغايرة تماماً لما نعيشه كعرب، ولما تعيشه القضية الفلسطينية ككل؛ فـ"كبوجي" ينتمي إلى مرحلة النضال القومي والوطني، وهو ابن مرحلة التحرر من الاستعمار ومرحلة بناء دولة ما بعد الاستقلال، وهو الشاهد على ضياع "فلسطين" وتشريد شعبها كباقي جيله. ولعل تميّز الرجل لا ينبع من جنوحه للخيار المقاوم في شكله العسكري -الذي أصبح لصيقاً لذكره وذكراه- بل في صبغة المعركة في حياته ونضالاتها».

وأضاف "النابلسي": «"كبوجي" ابن جيل اختار القومية والوطنية واليسارية خطوطاً لتحرير "فلسطين"، وجعل من النهضة والتحرر العربي بأكمله، معطى لا يمرّ إلا من بوابتها، ومن جيل لم يكن فيه الدين إلا الإضافة إلى الهوية التحررية. كان "كبوجي" وربما غيره من رجال دين مسيحيين ومسلمين على اختلاف طوائفهم، ورثة أنبياء حقيقيين في المقاومة والنضال والدور الذي قلّ نظيره.

يغادرنا "كبوجي" وقد خلع الإسلام السياسي عن "فلسطين" وتحريرها وعروبتها ووطنيتها وحتى إنسانيتها، لتصبح القضية المركزية خلافاً بين مؤمنين وكفّار».

يذكر أن الراحل "هيلاريون كبوجي" من مواليد مدينة "حلب"، 2 آذار 1922، أصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في "القدس" عام 1965، وتم اعتقاله من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني في آب 1974 أثناء محاولته تهريب أسلحة للمقاومة الفلسطينية، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عاماً. أفرج عنه بعد أربع سنوات بوساطة من الفاتيكان، وأبعد عن "فلسطين" في تشرين الثاني 1978، وأمضى حياته بعد ذلك في المنفى في "روما" حتى وفاته في اليوم الأول من عام 2017، ورفضت سلطات الاحتلال الصهيوني تنفيذ وصيته بدفنه في "القدس" المحتلة، فدفن بجوار والدته في بلدة "صربا" اللبنانية.