لا تزال الحارات القديمة في مدينة صافيتا تحتفظ بعبق الماضي الزاخر بحكايات التاريخ ونفحاته الإيمانية، وخصوصاً الحارة الشرقية حيث تتلاصق جدران منازلها وأرصفتها الحجرية القديمة التي تعد بمثابة وثيقة للتاريخ، بكنائسها القديمة، وبشخصياتها التي لا يزال ذكرها يشبه برج صافيتا الأثري خلوداً .

الحارة الشرقية

يقول الباحث التاريخي "رفيق القحط": إن صافيتا أغنت كتب التاريخ بدءاً من الحقب الرومانية والصليبية والبيزنطية حتى العهد العثماني والفرنسي، وتعد الحارة الشرقية كغيرها من الحارات القديمة التي مر عبرها التاريخ، حيث اشتهرت تلك المنطقة بالبيوت المتلاصقة ومنها العشوائي بأسقف مرتفعة يصل ارتفاعها إلى أربعة أمتار في بعض المنازل، والتي تشاركت فيما بينها الألفة والتعايش بين جميع الطوائف، كما تشاركت رغيف الخبز بطقوس اجتماعية ودينية منها طواه النسيان ومنها مازال حتى يومنا هذا، استمراراً لعادات حافظت على هذا الإرث في صافيتا وقراها.

ويتابع "القحط" حديثه بالقول: "امتازت الحارة الشرقية بتنوع المهن اليدوية التي اندثر بعضها، فيما لا يزال بعضها الآخر قائماً كمهنة النحاسة والحدادة والبناء بالحجر القطع، ومهنة الكندرجي، كما خرج منها الكثير من المتعلمين الذين تركوا بصمة في عالم الأدب والاجتماع والسياسة وغيرها، ومن أهم معالم الحارة كنيسة "مار نقولا" التي يعود تاريخ بنائها إلى عام 1917 ودار الراهبات وكنيسة البروتستانت مع مدرستها وقبة "الخوري إبراهيم".

الحارة الشرقية وساحتها

في نفس السياق يقول مختار الحارة الشرقية "جورج سمعان": "كانت الساحة الشرقية نقطة الوصل بين صافيتا وجميع المدن السورية والقرى المجاورة لصافيتا، كان فيها كراج سمعان وكانت وجهة سياراته من وإلى لبنان ودمشق وحمص، امتازت أبنية الحارة القديمة بعلو السقف واتساع المساحة وخصوصاً بيوت العقد المعروفة بدفئها في الشتاء وبرودتها في الصيف، وهذه البيوت تتألف من طابق واحد تعيش فيه العائلة مجتمعة، بجانبها قطعة أرض صغيرة زرعت بأشجار الحمضيات والفواكه الصيفية والخضراوات.

نشاطات أهلية

وبالرغم من تراجع النشاط الاجتماعي وخاصة خلال الأزمة وبعدها، يرى "سمعان" أن نشاط الفعاليات الأهلية عاد مجدداً من خلال حملات النظافة والكرنفالات التنكرية، كعيد القديسة بربارة وكرنفال عيد الميلاد، وأهم الفعاليات الاحتفالية إضاءة شجرة الميلاد في ساحة كنيسة السيدة، بمشاركة أهالي صافيتا وجميع المناطق المجاورة، فيما بقي في الحارة الشرقية بعض الأبنية القديمة ذات القناطر والعقود، وفيها بعض المزارات القديمة مثل مزار السراقة الموجود خلف البازار القديم وغيرها.

الخوري ابراهيم وضريحه في الحارة الشرقية

وتعتبر الساحة الشرقية اليوم عصب صافيتا التجاري، ومؤخراً سميت الساحة الشرقية على اسم العلامة الصفتلي "جبر ضومط" .

بدورها تقول الشابة "ريم سليمان": إن أجمل معالم المنطقة هي الأرصفة ذات الحجر الأسود، وبعض البيوت التي تشبه في هندستها بيوت دمشق القديمة، إلا أن البناء الحديث شوه من الحارات وقضى على عبق الماضي فيها.

جرجس الياس الخوري والأب ميشال بوغوص

"الخوري إبراهيم"

تحول قبر "الخوري ابراهيم" منذ وفاته إلى محج للمؤمنين من كافة الطوائف، كما يقول ابن صافيتا المعمر "جرجس الياس الخوري" 86 عاماً, والذي تستحضر ذاكرته العديد من الروايات المتداولة عن المكان ويضيف : "أنجبت أنطاكية الكبرى القديسين غير المطوّبين أي (القديس المنسّي) الذين تركوا أثراً لم يمحه الزمن كالخوري إبراهيم الذي ولد عام 1798 ورُسم كاهناً لصافيتا من عام 1835 حتى 1892، وبحسب ما يتداوله الناس عن الخوري "إبراهيم" ورعه وتكريس حياته لأجل الإيمان والناس قولاً وفعلاً.. كان مضحياً ومحباً للجميع يساعد كل من يقصده، حتى وفاته عام 1892 عن عمر ناهز 94 عاماً".

ويذكر "الخوري" ما سمعه عن الأجداد أنه وعند رقاد "الخوري إبراهيم"، رأى كثير من الناس ممن كانوا في البيادر القريبة من بيته نوراً صاعداً إلى السماء وكأنه يحمل روحه الطاهرة، وأقيمت قبة فوق القبر وهي الآن مزار يقصده الكثيرون.

ويشير إلى أنه وكما تم تطويب بعض القديسين في سورية مثل "مار مارون" في حلب وجعله وجهة للحج المسيحي، كذلك يلتمس كثيرون في المجمع الأرثوذكسي في تطويب "الخوري إبراهيم" قديساً، وبالتالي تصبح صافيتا طريقاً للحج المسيحي وإنعاش للسياحة الدينية في المنطقة .

المدرسة والكنيسة

كانت صافيتا البيت الكبير لجميع الطوائف ومنها كنيسة الطائفة البروتستانتية التي شيدت في الحارة الشرقية عام 1885، كما يقول قسيس الكنيسة البروتستانتية "ميشال بوغوص" الذي يبلغ اليوم من العمر 80 عاماً، حيث قدم مع زوجته إلى المنطقة عام 1978،مؤكداً أنه وحتى عام 1918، لم يكن للكنيسة القديمة أثراً في صافيتا بسبب هجرة أبناء الطائفة وبناء محلات تجارية مكانها، فانتقل الزوجان إلى قرية "اليازدية" التي تبعد عن صافيتا حوالي 7 كم واستلم "بوغوص" مهامه بعد القس "داوود خاشو" الذي قدم من لواء الاسكندرون إلى المنطقة، بناء على قرار السينودس الإنجيلية المشيخية في سورية ولبنان.

ويشرح القسيس شكل الكنيسة القديمة التي كانت تتألف من قاعات استعملت للصلاة يوم الأحد وللدراسة في باقي أيام الأسبوع ولهذا سميت "مدرسة الأحد"، ويتم فيها تدريس المرحلة الابتدائية من الصف الأول حتى الخامس لجميع الطوائف من دون استثناء، وكان لها الفضل إلى جانب كنيسة الأمريكان في الحقبات القديمة في نشر التعليم في المنطقة، وفي المدرسة البروتستانتية يقوم القسيس بمهمة التدريس لصف أو صفين، ويساعده شخص آخر يتولى باقي الصفوف.

ويشير القس إلى كتاب "أوراق فارس الخوري" للأديبة "كوليت الخوري" التي ذكرت فيه جد الرئيس الراحل "فارس الخوري" تاجر الحرير الذي جاء إلى منطقة صافيتا مع صديقه التاجر اللبناني، وزار المنطقة ووصل إلى قرية "اليازدية" وانتسب إلى الطائفة الإنجيلية.