في شوارع مدينة "صافيتا" تأخذك الجدران الحجرية في رحلة عبر الزمن إلى عصور خلت، بدءاً من القلاع والأرضيات الحجرية الأثرية وشتى فنون الحجر المختلفة التي دخلت في صميم حياة وأعمال الناس في ذلك الزمن الغابر، وهو فن ما زال موجوداً إلى اليوم وثمة من يمتهنه في زمننا.

أصول وفنون

يتحدث "علي سعد ضاحي" 61 عاماً عن مهنة بناء الحجر الذي تعلمها من عائلته ويقول: "لم تكن ممارسة المهنة خياراً بل كانت متاحة لمعظم الناس، امتهنت عائلتي العمل ببناء الحجر الأسود منذ منتصف القرن التاسع عشر باعتماد أحجار عرضها 90 سم"، لتكون عازلاً طبيعياً يمنح المنازل دفئاً في الشتاء وبرودة في الصيف، واقتصرت أدوات بنائها على "المهدّة" لتقطيع الحجارة الكبيرة، وهي (مطرقة كبيرة وزنها بين 10-12 كغ) والبيك وهي (مطرقة مدببة من الطرفين وزنها 5 كغ) لصنع شق أو ثقب في الحجرة بشكل مستوٍ، وتثبيت نضاوات (جمع نضاوة وهي الأسفين الصغير)، حيث يتم تشذيب كل حجر بواسطة المطرقة الصغيرة والإزميل أو بواسطة المشط (مطرقة تشبه الشاكوش من الجهتين)، وهناك أدوات أخرى مثل القظمة (3كغ), والمخل (10 كغ) التي تعتبر أساسية في التعامل مع الصخور أيضاً".

البيت الحجري

ترتبط مساحة البيوت العربية بالوضع المالي لأصحابها، فمعظم منازل الريف كانت حوالي 120 متراً، تقسم بشكل أساسي إلى ثلاثة أقسام يسمى كل منها "بيت"، فهناك بيت للسكن وبيت للمونة وبيت للحيوانات، تفصل بجدران من الحجر وقد لا تفصل، تبعاً للوضع المادي، وكثيراً من المنازل كانت أقسامها الثلاثة غير منفصلة.

الجرن والرحى

يصف "ضاحي" بيت السكن بأنه القسم الأساسي من المنزل بابه من الخشب الخالص، تليه مصطبة صغيرة تسمى "الحفة" مصنوعة من الحجر والطين تشبه الكنبة وتستخدم للجلوس أو للنوم وتكون بجانب الباب وعلى يمينه، وبعد الحفة توجد القناطر أو الساموك لحمل الجسور الخشبية التي تحمل الطين على السطح، يبنى أمام المنزل العربي مصطبة دائرية وتنور للخبز بواسطة الحجر والطين، وفي كل عام يتم تطيين البيت وتحويره لسدّ الثغرات ومنع تسريب المطر، ويتم طرشه من الداخل بالحوّارة وهي عبارة عن طين من التراب الأبيض، وأما بيت المونة فقد احتوى على السطورة والسدّون وهو عبارة عن برميل أسطواني من الحجر والطين لتخزين الحبوب المختلفة بالإضافة إلى بيت الدواب.

ويشير "ضاحي" إلى أدوات كانت أساسية في السابق، ولكن في الوقت الحالي ساهم انقطاع التيار الكهربائي بزيادة طفيفة على الطلب عليها كالجرن والرحى الحجريين، أو يتم اقتناؤها للزينة، كما تراجعت أعداد اليد العاملة بها مؤخراً في الريف الساحلي لأنها لا تجذب الشباب، وتقتصر الخبرة في صناعتها على من توارثوا هذا العمل من عائلاتهم.

حاتم الشيخ أحمد

الجرن والرحى

المعرجلينة الحجرية

"حاتم إسماعيل الشيخ أحمد" 50 عاماً، والذي تأثر بعائلة والدته التي تتقن فن التعامل مع الحجر، وتخصص بصنع الرحى والجرن منذ أعوام، يقول: "في البدء يتم إحضار الحجر الأقرب للشكل الكروي أو المكعب، يُكسر لتتشكل قاعدة مستوية ووجه أعلى مستوٍ أيضاً، يُحفر الحجر باستعمال البيك، بضربات مركزة غير شديدة تكون متتالية ومتجاورة لتتشكل حفرة دائرية الشكل تسمى هذه العملية (نقش)، وتستمر حتى تصبح الحفرة بعمق حوالي 20 سم مع المحافظة على سماكة جدران الحفرة ومحوريها ليتحمل الجرن ضربات المدق، وهي أداة حجرية تصنع أيضاً للضرب على الجرن" .

ويشير "أحمد" إلى طريقة صنع الرحى (الطاحون) التي تصنع بسماكة 7 إلى 10 سم مع وجوب المحافظة على هذه السماكة حتى تتمكن النساء من تحريكها، حيث يبدأ تشكيل الرحى بكسر الحجر بواسطة المهدة ثم تسويتها وتشكيلها الدائري بطريقة النقش، وفي النهاية يتم تفريغها في الوسط بالنسبة للقسم العلوي وصنع حفرة أخرى للمسكة اليدوية، وحفر حفرة للمحور في القسم السفلي ليوضع فيها محور خشبي يسمى القلب.

أما "المعرجلينة" الحجرية فقد تواجدت سابقاً في جميع البيوت، وهي محدلة حجرية لرص اللبن والطين على أسطح المنازل القديمة، تصنع من حجر طويل يتم تشكيله ليصبح متوازي مستطيلات، ويقوم الرجل بالنقش عليه ليصبح أسطواني الشكل، وفي النهاية يصنع له ثقب من كل جهة لتدخل فيه قطعة حديدة بشكل قوس تسمى (قوس الجر) وأصبحت "المعرجلينة" من ذكريات الأمس لأنه لا طلب عليها اليوم .

تراث عمراني

اشتهرت "صافيتا" بنمط معماري أعطاها هوية تاريخية متفردة حافظت على روح المدينة وأصبحت نقطة جذب سياحية واقتصادية وتاريخية ثقافية مهمة.

وأدرجت بيوت المدينة على لائحة التراث المادي المتنوع بشكل عام، وارتبط الحفاظ عليها بمعايير وأسس علمية واجتماعية جسّدت فترة تاريخية معينة، وتبنى الحفاظ عليه مبدأ التشاركية مع السكان، ومازال الجرن والرحى وخزان المياه الحجري مستثمرين وظيفياً واقتصاديا حسب الضرورة.

في نفس السياق يرى المهندس" مروان حسن" رئيس دائرة الآثار في طرطوس، أن تميز منطقة "صافيتا" يعود لنسيجها العمراني منذ القرون الوسطى المتمثل بعدة أشكال، كالبرج الأثري والسور ومحيط المدينة وغيرهم، وعلى مراحل تاريخية تحولت المنطقة إلى مدينة سكنية اشتهرت بشكلها العمراني وشوارعها، وبنيت منازلها من الحجر الكلسي الأبيض المطعّم بالحجر البازلتي أحياناً، فاستعملت الحجارة السميكة لغاية إنشائية تدعيمية لحمل الأوزان، ولأسباب بيئية تتعلق بطقس المنطقة، كما يوجد في "صافيتا" وقراها العديد من البيوت الحجرية، مازال بعضها صالحاً للسكن بسبب جملته الإنشائية الجيدة، إلا أن تكلفة سعر الحجر جعلت الناس تلجأ لبناء البيت بالمواد (البيتونية) الخفيفة.

ويتابع حسن حديثه بالقول: "يتم رصد ومعاينة وتوصيف البيوت الحجرية بشكل رسمي بما يتناسب مع وضعها، ويختلف أسلوب تدعيم البيوت الحجرية عن الإسمنتية لأجل السلامة العامة،فقد تحتاج لعملية ترميم بسيطة، أو للفك وإعادة التركيب مع بعض الإضافات الداخلية التي تتناسب مع ضرورات الحياة المعاصرة".